إرتفاع معدل التضخم في أميركا نتيجة إضافية لكورونا
ويُقلق أصحاب القرار ويُزعج أسواق المال
بعد إندلاع شرارة وباء «كوفيد- 19» في العالم في بداية 2020، هدأت حركة الإستهلاك في الأسواق نتيجة سياسة الحجر الإلزامي لفترة من الزمن، تراوحت بين بلد وآخر، وتضرّرت معها مصالح إقتصادية كبيرة، وأُغلقت متاجر كبرى، وهبطت معدلات النمو تحت الصفر لتصل إلى 20 % في بعض دول العالم.
وشهدت الأسعار نتيجة ذلك إنخفاضاً تسبّب في إزدياد القلق لدى أصحاب القرار حول العالم، لأن شبح تباطؤ إرتفاع الأسعار، خيّم على الإقتصادات الكبرى والبنوك المركزية التي تسعى إلى إستقرار الأسعار عند نسبة وسطية 2 %، حيث إنه منذ سنوات، تُكافح البنوك المركزية لدفع معدل التضخم الذي قارب الـ 0 % في بعض الأحيان، للعودة إلى مستوى تصاعدي، لكن ضمن الحد المطلوب كي لا تدخل أميركا وأوروبا في الحلقة التي تعانيها اليابان منذ تسعينات القرن الماضي وهي: (Deflution – الإنكماش).
لكن اليوم، وبعد 14 شهراً على الإنفجار الوبائي الذي وصلت شظاياه إلى كل متر مربع في الكرة الأرضية، ومع عودة الحياة إلى طبيعتها تدريجياً مع إزدياد الإقبال على التلقيح ضد الوباء، بدأت الثقة تعود إلى الإقتصادات والحركة الإستهلاكية تنشط ولا سيما أن ملايين المواطنين حول العالم إدخروا عشرات المليارات بل مئات المليارات نتيجة البقاء في المنازل بسبب الحجر. وها هم اليوم، وبعدما إستفادوا من شيكات من الحكومة الأميركية لدعم قدرتهم الشرائية، يستعدون للمساهمة من جديد في تنشيط العجلة الإقتصادية.
هذه البيئة الإستهلاكية، مع عودة سريعة لإنعاش الإقتصاد الأميركي، تزامناً مع الخروج من نفق كورونا، ساهمت في شهر نيسان/ إبريل 2021 في إرتفاع أسعار المواد الإستهلاكية على مدى عام إلى مستوى لم تشهده الولايات المتحدة منذ العام 2008 بشكل عام.
وإذا إحتسبنا مستوى إرتفاع الأسعار المعروف بإسم (Inflation Sous-Jacente)، (التضخم الأساسي)، أي أسعار السلع، ما عدا أسعار الطاقة والمواد الغذائية، فنلاحظ أن مستوى التضخم الذي عرفته أميركا بعد عام على كورونا، هو الأسرع منذ نيسان/ إبريل 1982، في حين أن أميركا وأوروبا لا تريدان معدل تضخم يفوق نسبة 2 % كمعدل وسطي، حيث بلغ التضخم الأميركي في نيسان/ إبريل 2021 وعلى مدى عام، نسبة 4.2 % وهو الأعلى منذ العام 2008.
وفي شهر نيسان/ إبريل وحده بلغ إرتفاع الأسعار بنسبة 0,8 %، وهو معدل أعاد خلط الأوراق في أسواق المال، وتسبّب في هبوط المؤشرات الكبرى منها، مثل «وول ستريت». لأن إرتفاع التضخم يعني التوجه نحو رفع أسعار الفائدة، وهذه الأخيرة تجذب رؤوس الأموال نحو الإدخار، وتقلّص حركة الإستهلاك، وتالياً المستثمر يختار العائد الأعلى على أمواله، وقد يتحول من الإستثمار في البورصات نحو الوديعة المصرفية. علماً أن الولايات المتحدة لا تزال تتبع سياسة سعر فائدة متدنية، لدعم المسيرة الإقتصادية من خلال قروض ميسَّرة للمستثمرين من أفراد وشركات، وللزبائن الراغبين في قروض صغيرة إستهلاكية. فجاءت معدلات التضخم اليوم نتيجة الإقبال على الإستهلاك بعد فترة حجر فرضتها كورونا لتدق ناقوس الخطر حيال معدلات تضخم فاجأت كل التوقعات، ولا سيما الذين يعملون على الدراسات الإحصائية والتوقعات (التنبوءات) الإقتصادية.
هذه الفورة في إرتفاع الأسعار في الولايات المتحدة، الإقتصاد الأقوى في العالم، وشعلة الإقتصادات الأخرى، إلى جانب الإقتصاد الصيني المنافس، تعود في الغالب إلى الإقبال على السلع والخدمات التي يصعب تخزينها نتيجة سياسة التبادل التجاري التي تضرّرت على مدى عام، تخللته الكثير من إجراءات حجر وقيود على الإستيراد والتصدير. فالطلب على هذه السلع غير المتوافرة بكثرة، أدى إلى إرتفاع خيالي للأسعار ليقفز من 2.6 % في آذار/ مارس 2021، قياساً بآذار/ مارس 2020، إلى نسبة 4.2 % على مدى عام.
يُشار إلى أن سعر النفط المتقلب لم يدخل في حساب معدل التضخم موضوع الدراسة، وإلا كنّا رأينا معدل تضخم أقل نتيجة إنخفاض سعر النفط، والذي تأثر بالجائحة الكونية.
المؤكد اليوم أمام هذا الواقع المحرج للأميركيين والحساس حيال الذين يتأثرون بالإقتصاد الاميركي، هو أنه على أصحاب القرار في أميركا العمل بسرعة على احتواء هذا الإرتفاع الجنوني للأسعار قبل فوات الأوان. لأن العكس سيفرض واقعاً من رفع لسعر الفائدة وقطع الطريق أمام سياسة فائدة متدنية وسلبية أحياناً وقتل الإنتعاش، قبل أن يصل إلى منتصف الطريق، ولا سيما أن إرتفاع الأسعار سيتواصل في الأشهر المقبلة، مع تحسن الاوضاع الصحية في أميركا والعالم، مع فارق بين بلد وآخر، وهذا ما يُقلق الأسواق المالية، والإقتصاديين أصحاب الدراسات الإحصائية، فضلاً عن أن شركات كثيرة مقبلة على نشر نتائجها الفصلية، منها ما يستفيد من إرتفاع الأسعار، ومنها المتضرر بحسب نوعية الشركة ومنتجاتها.
ظاهرة إرتفاع الاسعار في الولايات المتحدة اليوم، قد لا تُسبّب فقط بإعادة النظر بسياسة سعر الفائدة المعتمدة لدى الإحتياطي الفدرالي، بل تدفع بهذا الأخير إلى التراجع عن سياسة التسيير الكمّي الذي إستأنفه بعدما توقف عن هذه السياسة التي إستمرت سنوات عدة، وتخلّلها شراء سندات ديون صافية، وأخرى لشركات مقابل ضخ سيولة لدعم الإقتصاد الوطني.