الأزمة الإقتصادية والمالية والاجتماعية في لبنان تشتد فإلى أين ستصل؟
يتفق الجميع على أن لبنان يمر بأسوأ أزماته الإقتصادية والمالية منذ نشوئه، إذ خسرت العملة الوطنية أكثر من 85% من قيمتها، ما يُنذر بإنهيار شامل قد ينتج عنه ما لا تُحمد عقباه. كما أن تقارير البنك الدولي تُظهر إنه لا توجد نهاية تلوح في الأفق للأزمة الإقتصادية في لبنان التي قد تكون واحدة من أسوأ الإنهيارات المالية التي شهدها العالم منذ ما يقرب من 200 عام.
وما يزيد الطين بلة هو تزامن هذه الازمة مع إنسداد سياسي تسبّب في عدم تشكيل حكومة مستقرة حتى اليوم، ما يعرقل الكثير من الخدمات المقدمة للمواطنين، ويدفع بالبلاد إلى شفير الإنهيار التام.
في المقابل يرى المختصون أن الأزمة الإقتصادية والمالية في لبنان هي في جوهرها، أزمة حوكمة مُنبثقة من نظام طائفي يعاني خللاً بُنيوياً، منع صنع سياسات عقلانية وسمح بإنتشار ثقافة الفساد والهدر. ومن دون معالجة الأسباب الجذرية للمشكلة، يبدو أن الأزمات ستكون طويلة الأمد.
بين الواقع الذي يعيشه اللبنانيون، وبين تشخيص مسبّباته من قبل المختصين، لا بد من البحث عن عن تفسير لفشل العديد من الإجراءات التي تمنع الإنهيار السريع والتي قام بها المصرف المركزي في لبنان (سياسة الدعم/ إطلاق منصة 3900/ وآخرها إطلاق منصة صيرفة)، بمعنى آخر من الضروري الإجابة على أسئلة عدة، إلى أين نحن ذاهبون؟ ولماذا لم تنفع هذه الإجراءات؟ ولماذا هذا البطء في إقرار قانون «الكابيتال كونترول» مثلاً، الذي كان سيُعطي إشارة إلى أن الطبقة السياسية تريد السير بالإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي؟
أجوبة متعددة جمعتها «مجلة إتحاد المصارف العربية» من أهل الإختصاص والتجربة، فكانت المقاربات متنوعة ومن زوايا مختلفة.
قرم: المشكلة في الزعامات الطائفية
ما حصل هو سوء إدارة وإقرار قوانين
لمنع خروج رؤوس الأموال من لبنان لن يُجدي نفع
يُحدّد وزير المال السابق الدكتور جورج قرم عاملين أساسيين منعا إحتواء الإنهيار الحاصل، إذ يعتبر لـ «مجلة إتحاد المصارف العربية» أن «عدم وجود حكومة يؤثر على الأزمة، لكن درجة الفساد والإفساد التي وصلنا إليها في لبنان، وفي ظل النظام الطائفي البشع يزيد من الإنهيار، فضلاً عن السياسة غير الحكيمة التي ينتهجها مصرف لبنان والتي برأينا يجب تغييرها»، لافتاً إلى أن «المنطقة تعج بالتغييرات الكبيرة، ولبنان لن يبقى بمنأى عنها، والمشكلة هي في الزعامات الطائفية التي تحكم البلد بيد من حديد، وهي مصابة بمرض الناس الذين لا يشعرون بمحيطهم».
يُشدد قرم على أن «العوامل الداخلية تزيد من حدّة الإنهيار، بالإضافة إلى وجود أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ سوري، وآلاف اللاجئين الفلسطينيين، وهذا عامل ضاغط على البنية التحتية اللبنانية، وزيادة الأكلاف التي تتكبدها الدولة، لافتاً إلى أن «مساعدات الإتحاد الإوروبي لا تتعدى 80 مليون يورو، في حين أن خسائر لبنان جرّاء وجود النازحين هو بمليارات الدولارات».
يُعبّر قرم صراحة عن رفضه لإقرار قانون «الكابيتال كونترول»، ويشرح سبب ذلك بالقول: «أنا ضد إقرار «الكابيتال كونترول»، لأن لبنان يتمتع بنظام إقتصادي حر، والمساس به ليس من التقاليد المالية اللبنانية، ويُعيدنا إلى عهد الانتداب»، مشيراً إلى أن «التجارب العالمية دلت على أن «الكابيتال كونترول» لم يُساهم في إخراج أي دولة من مأزقها، أو يحول دون إنهيار سعر صرف العملة فيها، وهذا ما حصل في الجزائر والأرجنتين».
ويرى قرم أن «ما حصل في لبنان اليوم، هو سوء إدارة، ومهما تم إقرار قوانين لمنع خروج رؤوس الأموال من لبنان إلى الخارج، فهذا لن يجدي نفعاً، والمشكلة هي كتلة الدولارات النقدية الموجودة في المنازل و هي كبيرة».
ويعتبر قرم أن «أي زيادة لطبع العملة لزيادة الرواتب، ستكون نتائجه عكسية، لأننا في عهد التضخم الهائل ومعالجة الأوضاع المعيشية، تكون عبر مساعدة الفئات الأكثر فقراً وتحسين رواتب الجيش اللبناني».
غبريل: «المركزي» يُحاول ملء الفراغ
لا إرادة سياسية للجم التدهور
والقطاع الخاص يعمل بضبابية من دون وضوح في الرؤية
يُقارب الخبير الإقتصادي نسيب غبريل محاولات المصرف المركزي، للحد من قسوة الإنهيار المالي والإقتصادي الحاصل في لبنان من زاوية مختلفة، ويقول لـ «مجلة إتحاد المصارف العربية»، أن «مصرف لبنان يُحاول من خلال الإجراءات التي يتخذها أن يملأ جزءاً من الفراغ الذي تركه أداء السلطة السياسية في لبنان منذ بداية الأزمة، من خلال التعاميم والمنصات التي يطلقها»، لافتاً إلى أنه «بغض النظر عن توجه الحكومة السياسي، فحين تحصل أزمة إقتصادية ومالية، عليها إتخاذ إجراءات للجم التدهور الحاصل، وبعدها يتم وضع خطة إنقاذ وإصلاح التي طلبها صندوق النقد الدولي».
ويلفت غبريل إلى أنه «ياللأسف في لبنان، ومنذ إندلاع الأزمة المالية، لم يحصل أي من هذه الخطوات، والسلطة التنفيذية لم تتخذ إلى الآن أي قرار يُوقف التدهور الإقتصادي، ويُساند الوضع المالي والمصرفي في البلد».
ويضيف غبريل: «منذ إنفجار مرفأ بيروت لم يحصل أي قرار بخصوص الإنفجار وإعادة الإعمار، ومنذ 10 أشهر، نحن من دون سلطة تنفيذية، والأكيد أنه لو تمّ منذ بداية الأزمة إتخاذ القرارات اللازمة، وفي مقدمها إقرار مشروع «الكابيتال كونترول»، لكان الوضع مختلفاً اليوم»، مشدداً على أن «أكثر إجراء بديهي يُتخذ في هكذا أزمات هو إقرار «الكبيتال كونترول»، لمنع التراجع الحاد في العملات الصعبة، ووقف تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج وهذا لم يحصل بسبب غياب الإرادة السياسية لذلك، والإجراء الوحيد الذي تمّ إتخاذه كان كارثياً على الإقتصاد وهو وقف سداد لبنان لدينه من سندات اليوروبوند».
يضيف غبريل: «إن «الكابيتال كونترول تم إقراره في أيسلندا مثلاً عقب الأزمة المالية العالمية خلال 3 أيام، وتم إحتواء هلع الناس ومحاولاتهم لسحب أموالهم، وفي لبنان أيضاً في ستينيات القرن الماضي، وعقب أزمة بنك أنترا تّم إقرار «الكابيتال كونترول» في يوم واحد، حيث إجتمع مجلس النواب والحكومة لإقراره وتطبيقه، وأدت إلى إستقرار الوضع المصرفي وإستعادته عافيته لاحقا».
يرى غبريل أن «أولوية الأحزاب والتيارات السياسية هي الإنتخابات النيابية في العام المقبل، وهم يتهيأون لذلك رغم تراكم الأزمات في لبنان، ولذلك يُمكن القول إنهم في واد والإقتصاد والقطاع الخاص في واد آخر»، مشيراً إلى أن «ما هو ظاهر إلى الآن هو عدم وجود إرادة سياسية للجم هذا التدهور، والقطاع الخاص يعمل في ظل ضبابية كاملة من دون أي وضوح في الرؤية، وسنُكمل على هذا الحال طالما أنه ليس هناك إجراءات أو خطة ميكروإقصادية لمعالجة الوضع القائم».
ويُشدد على أن «الإصلاحات لن تأتي وحدها وتهبط بالبراشوت، بل يجب أن يكون هناك إرادة سياسية محلية لإنتشال الوضع الإقتصادي والمعيشي، ومن الأزمات المتعددة التي يعانيها الشعب اللبناني»، لافتاً إلى أن «المجتمع الدولي يُردد على مسامع السياسيين «ساعدوا أنفسكم كي نتمكن من مساعدتكم، وهذا أمر إيجابي، أي أن المجتمع الدولي لم يترك لبنان وحده في أزمته، ومستعد للدعم شرط تطبيق الإصلاحات وهذا ما لا نقوم به».
كرم: إستعادة الثقة
فقدان الثقة هو الثغرة الأساسية لعدم قدرة إجراءات
«المصرف المركزي» على لجم الإنهيار
إجابة الخبير الإقتصادي شادي كرم على سؤال «إلى أين سنصل في أزمتنا المالية والإقتصادية» عنوانها «إستعادة الثقة»، إذ يقول لـ «مجلة إتحاد المصارف العربية» أن «الثغرة الأساسية في عدم قدرة إجراءات المصرف المركزي على لجم الإنهيار الحاصل هو بسبب فقدان الثقة»، شارحاً أنه «قبل الأزمة، كان هناك فصل بين الوضع الإقتصادي والسياسي في البلد عبر جدار «سميك»، وكانت جهود القطاع المصرفي والقطاع الخاص تُبقي البلد «واقفاً على قدميه»، لأنه كان هناك ثقة عالمية بهما»، ويشير إلى أن «ما حصل هو أن المؤامرة فجّرت الثقة بالقطاع المصرفي وبمصرف لبنان، وهدمت الجدار الفاصل بين الشأنين السياسي والإقتصادي والمالي في لبنان، وتسبّبت بحصول الفوضى التي نعيشها اليوم، في ظل فقدان الثقة بالسياسة والقطاع المصرفي».
يضيف كرم: «أن أي محاولة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي والنقدي، لا يُمكن ان تنجح إذا لم نتسعد هذه الثقة، ونُعيد الفصل بين الشأنين السياسي والإقتصادي وهذا أمر مستحيل في الوضع الحالي»، لافتاً إلى أن الخيار الآخر هو أن نُبقي على هذين العالمين مجموعين، ونُعيد الثقة بالسياسيين، وهذا أمر غير متاح حالياً أيضاً، لأن لا إمكانية لإطلاق عجلة إصلاح توطد هذه الثقة وتثبتها».
ويُشدد كرم: على أنه «من دون ثقة أو إصلاح، لن تنجح أي محاولة للجم الإنهيار، ولن نحصل على أي مساعدة من الخارج، وما يحصل اليوم هو خطر جداً، لأنه بدلاً من أن نطلب من أصحاب المصارف والمساهمين في المصارف أن يُعيدوا بناء الرساميل للحفاظ على أموال المودعين، يجري إنقاذ المصارف بأموال المودعين الذين خسروا 75 % من ودائعهم»، معتبراً أن «اليوم يجري إعادة هيكلة المصارف عبر إضعاف ميزانياتهم بضخ أموال من جيوب المودعين، وإذا إستمرت الأمور على هذه الحال من دون إقرار قوانين وتدابير ناجحة، والإستمرار بسياسة الترقيع على حساب أموال المودعين، فإن الأوضاع المالية والإقتصادية في لبنان، ستكون من سيء إلى أسوأ».
ويرى كرم أن «إقرار «الكابيتال كونترول»، لم يعد مفيداً، وكان يجب أن يحصل خلال أيام قليلة من بداية الأزمة، وهذا ما حصل في قبرص مثلاً، والمشكلة في لبنان أن هناك عملتين للتداول، هما الدولار الأميركي والليرة اللبنانية، ولا نملك مساندة الإتحاد الاوروبي».
ويختم كرم بالقول: «إن المسؤولين في لبنان، إرتكبوا أخطاء مميتة عدة، أولها وقف دفع سندات «اليوروبوند» من دون التفاوض مع الدائنين، أو وضع جدولة للديون، وأيضا مع عدم القيام بخطوة الـ «سواب» – swab (أي إستبدال دين بدين آخر)، بغية تأجيل الإنهيار».l
باسمة عطوي
غبريل:
كرم: