القلق من الكساد كما في ثلاثينيات القرن الماضي جدلية مكرّرة ومبالغ فيها
الإقتصاد الأميركي.. بين الركود التضخمي المطوّل والكساد
لم تنكر وزيرة الخزينة الأميركية إحتمال دخول الإقتصاد الأميركي حالة الركود، نتيجة اللجوء للسياسة النقدية في علاج التضخم، ومعها رئيس الإحتياطي الفيدرالي، رغم أن الرئيس الأميركي أشار إلى أنه لا يعتقد بحتميته، إلاّ أن هناك من المستثمرين والإقتصاديين يُبالغ في توقعاته، ويمضي إلى أبعد من ذلك والحديث عن حالة كساد، بسبب التخوف أصلاً من أن الإحتياطي الفيدرالي ينوي القيام بعكس كامل تداعيات التيسير الكمّي الذي حصل ولن يقف إلاّ بعد الإنتهاء منه.
القلق من الكساد كالذي حصل في ثلاثينيات القرن الماضي جدلية مكرّرة ومبالغ فيها، إعتماداً على قوة وضخامة وظروف الإقتصاد الأميركي، فقد حصل مرة واحدة في أوائل القرن الماضي – وهي الحالة الوحيدة في تاريخ الولايات المتحدة – وأثير الكلام عن إحتمالية حدوثه أثناء ركود العام 2000 عندما تهاوت شركات التقنية، وأيضاً في العام 2008 مع إنهيار سوق الدين، بل وأثناء جائحة «كوفيد-19» في العام 2020، والتي بالفعل هوَت بأرقام الناتج المحلي الأميركي سريعاً، ولكن بدت الأمور متماسكة في ما بعد، ومن ثم تحرّكت مع التيسير الكمّي.
أما الركود في الإقتصاد الأميركي فتوقعه أقوى من ذي قبل هذه الأيام، بسبب المعطيات الداخلية، وتأخر عملية علاج التضخم، والظروف الجيوسياسية الحرجة ووضع إقتصادي أوروبي على حافة هاوية وضعف النمو في إقتصادات عالمية عديدة، ولكن تستمر المبالغة في التوقعات مثل أن الركود ربما قد تخطّى مرحلة أن يكون ضحلاً أو معتدلاً، وسيكون تضخمياً بآثار مؤلمة ومتسارعة وطويلة على شرائح المجتمع الأميركي الضعيفة وقطاعات الأعمال وعلى رأس القائمة المنظومة المالية والإستثمارية.
لكن هناك ما يلتمس العذر لهم في تخوفهم المتعاظم وخصوصاً على أسواق الأوراق المالية في الولايات المتحدة، بعد أن ظهرت نتائج آخر يوم من النصف الأول للعام بجملة من الخسائر بلغت حوالي 15 % لمؤشر «داو جونز»، و20 % لمؤشر «ستاندرد اند بورز»، و30 % لمؤشر «ناسداك»، ومتوقع هبوط إضافي.
وهناك أيضاً تخوّف من ضعف معمّق للطلب على السلع بسبب وسع مساحة العنصر الشاب الذي لا يمتلك النقد الإستهلاكي، وشيخوخة شريحة عريضة في المجتمع الأميركي بمحدودية إحتياجاتها على الأساسيات الحياتية فقط، كما أن التطور المذهل في التكنولوجيا المساهم في رفع كفاءة التشغيل التجاري والصناعي – الذي من المفترض أن يدعم خفض أسعار السلع – يُعتبر عاملاً في زيادة نسبة البطالة بسبب إستبدال القوى البشرية بالآلة الذكية.
ويظل الخوف من أن السياسة النقدية (رفع معدل الفائدة) ربما غير كافية كوسيلة العلاج الوحيدة للتضخم الحالي، لوجود إشارات تدل على أن النقص الحاصل في المعروض بسبب عجز في الإنتاج هو نتيجة مشاكل عميقة في سلاسل الإمداد في المقام الأول.
مهارة الإحتياطي الفيدرالي في إدارة المشهد هي مَن ستدحض الجدليات والتخوف القائم حالياً من الدخول في الركود التضخمي المطوّل، ولكن هذا يتطلب ظهور أرقام هبوط معتبرة لمنحنى التضخم وبتأثيرات مقبولة على معدلات النمو والبطالة قبل نهاية هذا العام 2022، وإلاّ ستكون الولايات المتحدة على موعد مع ركود تضخمي تتباطأ فيه معدّلات النمو المصحوبة بتصاعد التضخم أو البقاء في مستويات مرتفعة بدءاً من العام 2023، مما سيتسبّب في إحداث تحديات صعبة للإقتصاد الأميركي والعالمي.