الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في العهد الجديد وفخ الدولار القوي

Download

الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في العهد الجديد وفخ الدولار القوي

موضوع الغلاف
العدد 434

قد نكون قد دخلنا في عصر جديد من التعامل بالسياسة النقدية الأميركية مع النقلة السياسية الرئاسية التي ترجمها فوز الجمهوري والمثير للجدل دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة، لدرجة أنه وقبل تسلّمه الحكم رسمياً بشهر تماماً، أقدم الاحتياطي الفيدرالي على خطوة جريئة إضافية في العام 2016 في رفع سعر الفائدة ووعد بالمزيد منها في العام 2017 تاركاً الأبواب مفتوحة على كل الاحتمالات، مما عزّز من مواقع الدولار إلى مستويات لم يعرفها منذ العام 2002 مقابل اليورو. فالتنسيق اليوم بين السياسة النقدية الأميركية والسياسة النقدية الأوروبية أصبح شبه معدوم والمصلحة الداخلية فوق أي تعاون، لأن المشهد الاقتصادي الأميركي آخذ في التحسن بعد عبور استمر ثماني سنوات لنفق مظلم مليء بالأزمات العقارية والمالية.

لكن لا ننسى أن الاقتصاد العالمي ما زال ضعيفاً وأن قوة الدولار التي تحققت بسرعة مع عودة الفائدة المركزية إلى ارتفاع ستضر بالاقتصاد العالمي بشكل إضافي.

لا شك أن نبأ فوز دونالد ترامب في الرئاسة الأميركية أحدث زلزالاً في الأسواق الآسيوية على الفور وعلى نحو سلبي وتقلب حاد في أسعار العملات، لأن المستثمرين ينظرون إلى هذا الرجل نظرة تهور وقرارات سريعة وغير مدروسة ممكن أن توصل العلاقات الاقتصادية إلى حائط مسدود نتيجة تفكيره الاقتصادي المنغلق والدفاع عن سياسته الحمائية.

ترامب من المدافعين عن المنتج الأميركي ويعتبر أن العجز التجاري لبلده سببه التساهل مع الواردات الأجنبية. ومن هذا المنطلق، وعد الرئيس الأميركي المنتخب بفرض ضرائب بواقع 30 في المئة على الواردات من المكسيك ومن الصين. ولعل القرار في ما يخص الصين متهور مئة في المئة، لأن الرئيس الأميركي الجديد لم يعر الاهتمام الكافي لما تتمتع به الصين من نفوذ نقدي عالمي على صعيد الاحتياطي من الدولار والذي تملك منه الخزانة الصينية حوالي الثلث لوحدها.

في الواقع بدأ الدولار الأميركي يتعافى منذ فترة قبل فوز ترامب وازداد تحسناً بعد ذلك، لا سيما مع توقعات الأسواق الأميركية الداخلية بأن الرئيس الجديد سيخفض الضرائب على الاستثمارات وسيخصّص المزيد من الأموال الحكومية لإصلاح البنى التحتية. هذه التوقعات وغيرها تعزز من قدرة الاحتياطي الفيدرالي على اتخاذ القرارات باتجاه رفع الفائدة من جديد تدريجياً بعدما هبطت من أكثر من 5 في المئة في عامي 2007-2008 إلى قرابة صفر في المئة بعد أزمة العقارات.

وبالفعل قام الاحتياطي الفيدرالي بخطوة زيادة الفائدة بواقع ربع نقطة إلى ما بين 0.5 و0.75 في المئة وهي الزيادة الثانية خلال عام بالتمام 15/12/2015 و 15/12/2016. الاحتياطي الفيدرالي تعهّد أيضاً بثلاث زيادات للفائدة خلال 2017 ما سيعزز أكثر فأكثر من مواقع الدولار بما يجعل السلع المقومة بالعملة الأميركية مثل الذهب أعلى تكلفة على حائزي العملات الأخرى. النتيجة حتى اليوم أن اليورو تراجع عن مستوياته أمام الدولار ليعود إلى العام 2002 مقترباً من الدولار الأميركي. وتجدر الإشارة إلى أن اليورو هبط من 1.39 دولار عام 2014 إلى 1.03 دولار في نهاية العام 2016.

البنك المركزي الأوروبي أبقى الفائدة المركزية عند صفر في المئة في اجتماعه الأخير من العام 2016 تماشياً مع الوضع الاقتصادي في منطقة اليورو الذي يحتاج إلى مزيد من التمويل على فوائد شبه معدومة كما يحتاج إلى معدلات تضخم، حيث أصبحت هذه الأخيرة بحكم النسيان منذ سنوات، لطالما أن الطلب ما زال ضعيفاً والاستهلاك خجول للغاية.

هذا المشهد غير متوفر في الولايات المتحدة، فالنمو في تحسن والتضخم أيضاً ومعدلات البطالة في انخفاض، وهذا ما يبرر الإسراع في خطوات رفع الفائدة المركزية، لكن الأثر الايجابي الذي سيتركه هذا التحرك على الدولار قد لا يكون لمصلحة العالم عموماً وللأميركيين خصوصاً.

فقدرة الولايات المتحدة كقوة تجارية على صعيد العالم ليست كما كانت منذ سنوات بل آخذة بالتراجع، وعلى سبيل المثال، إن عدد البلدان التي تشكل الولايات المتحدة وجهة لصادراتهم تراجع من 44 بلداً عام 1994 إلى 32 بلداً في الوقت الحالي، ومع ذلك يبقى الدولار عملة التبادل والاحتياط العالمي من دون منازع.

فالدولار القوي سيزيد من ثمن السلع المقومة بالدولار عالمياً، كما سيحد من أرباح الصادرات الأميركية، لا سيما أن الظروف الاقتصادية العالمية لم تعد كما كانت قبل أزمات العام 2008 في أميركا والعام 2010 في أوروبا، والسباق نحو الدولار القوي قد يكون نوعاً من اللعب بالنار في التوقيت الحالي لأن الدولار سيلعب وحده في ألعاب تحتاج إلى لاعبين كثر، وبالأخص اليورو واليوان الصيني، وهاتان العملتان تطمحان لحمل لقب الدولار، لكن ذلك ليس بالأمر السهل ويتعلق بمعايير وتسعير سلع دولية حتى الآن.

فالسياسة الحمائية التي يعزف عليها الرئيس الأميركي الجديد قد تزيد من خطورة الوضع الذي رسمته الجهات الخارجية التي تتعامل على أساس السوق المفتوحة مع الولايات المتحدة. فالدولار القوي سيضعف الصادرات من جهة وسيغير بالتالي من المعادلة مع الواردات.

وللتذكير أنه في عصر الرئيس ريغان ساهم العجز التجاري بتغذية سياسة الحمائية. وهذه المرة فإن العجز التجاري في الولايات المتحدة ليس بوضع أفضل من السابق، وفي حال واصل الدولار الأميركي بقوته التي حصل عليها من جرعة الفوائد فهذه القوة قد تخفف من ضغط سياسة الحمائية، وبذلك يكون دونالد ترامب أصاب عصفورين بحجر واحد لكن عن غير قصد.

وامتصاص انعكاسات السياسة الاقتصادية المعادية للسلع الأجنبية قد نشهده من خلال إجراءات دولية منسقة بين عدة بلدان شبيهة باتفاقية «Plaza» عام 1985، عندما تضافرت جهود كل من الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية للحد من قوة الدولار، لكن هذا السيناريو اليوم غير وارد.

فاليابان وأوروبا في حالة لا يحسدان عليها مع معدلات تضخم شبه معدومة وكل من البلدين لا يريد أن يرى عملته قوية في هذه الأثناء، ناهيك عن سياسات نقدية متشددة.

هذه الخطوة السريعة التي أقدم عليها الاحتياطي الفيدرالي وزيادة سعر الفائدة بواقع ربع نقطة قد تكون إشارة قوية للأسواق بأن زمن المآسي انتهى والنمو آت لا محال والتضخم أيضاً وتخفيف القيود عن أكبر اقتصاد في العالم قد بدأ، وممكن أن تكون هذه الخطوة أيضاً أحرجت الاحتياطي الفيدرالي بعدما أقدم عليها ورأى أن الدولار اقترب من اليورو مع زيادة فائدة قدرها ربع نقطة مئوية فقط. فكيف سيكون حال الدولار في العام 2017 مع ثلاث زيادات أخرى في سعر الفائدة؟ في الوقت الذي لم يقدم فيه البنك المركزي الأوروبي على رفع الفائدة على اليورو وهي حالياً غير موجودة أصلاً (صفر %).

من هذا المنطلق قد يعيد البنك المركزي الأميركي (الاحتياطي الفيدرالي) حساباته من الآن وحتى موعد الزيادة المقبلة (والتي ستكون الأولى من ثلاث) لسعر الفائدة، خاصة إذا ظل الدولار وحيداً يتحمل عبء تحسنه نتيجة تكهنات من هنا وأخرى من هناك.

فهل العالم مستعدٌ اليوم إلى دولار قوي؟

وهل يجب تصديق أحلام ترامب الاقتصادية أم أن منطقة اليورو قد تستغل ضبابية الرئيس الأميركي الجديد وتعمل على الثأر من الولايات المتحدة خلال هذا العام؟ 

مازن حمود

باحث اقتصادي ومالي/ باريس