البنك المركزي الأوروبي بين تاريخين: شبح التضخم وديون إيطاليا

Download

البنك المركزي الأوروبي بين تاريخين: شبح التضخم وديون إيطاليا

الدراسات والابحاث والتقارير
العدد 500 - تموز/يوليو 2022

البنك المركزي الأوروبي بين تاريخين: شبح التضخم وديون إيطاليا

مع معدّل تضخم غير مسبوق خلال العقود الأربعة الماضية، لم يستطع البنك أن يبقى مكتوف الأيدي من دون أن يحمي مستوى الأسعار، وهي أهم وظائفه، فإتخذ البنك قراراً في حزيران/ يونيو رفع الفائدة من 0.5 – % حالياً، وبدافع ربع نقطة في تموز/ يوليو، ونسبة مماثلة، وربما نصف نقطة مئوية في أيلول/ سبتمبر، وفي الأشهر التالية بحسب نشاط معدّلات التضخم في بلدان منطقة اليورو.

رفعُ الفائدة المصرفية المركزية الأوروبية، قد لا يمرُّ من دون تداعيات وفي أولها إرتفاع تكلفة القروض السكنية والإستهلاكية، وتالياً تأثير على سعر العقارات من خلال تقلب حركة الطلب نتيجة سرعة رفع الفائدة وتأقلم المصارف معها.

هذه القضايا والتداعيات منتظرة في كل بلدان منطقة اليورو، إنما الخوف الأكبر للبنك الأوروبي المركزي من خلال رفعه للفائدة المصرفية، يبقى وضعية إيطاليا المالية ونسبة ديونها المرتفعة مقارنة بحجم الناتج المحلي ووضعية المصارف، وتالياً الخوف من تكرار سيناريو العام 2011.

قبل التوقف عند تأثر إيطاليا بخطوة البنك الأوروبي المرتقبة، من الوارد جداً ألاّ يستطيع البنك الأوروبي المركزي وضع حدّ لإرتفاع معدل الأسعار من خلال الرفع الأول للفائدة بعد سنوات من فائدة سلبية أو معدومة. هذا التضخم في إيطاليا مستورد ويتعلق بسلع خارجية، ولا سيما أسعار الطاقة التي إرتفعت خلال أيار/ مايو بنحو 40 %. البنك الأوروبي المركزي وأمام دائرة تضخمية غير مسبوقة، يُراهن على دور الشركات في المساهمة في تخفيض تأثير التضخم على الموظفين، وأن تُبادر إلى رفع نسبة الرواتب أو علاوات شهرية تُساهم في تهدئة الأسعار وتقوّي القدرة الشرائية للمواطن. لكن ليس كل الشركات قادرة على ذلك.

فرفعُ الفائدة قد يكون الأداة النقدية الأبرز لدى كافة البنوك المركزية لكبح جُماح التضخم، وغالباً ما تُصيب وغالباً ما تخيب.

فزيادة رفع الفائدة من حيث المبدأ يزيد عبء القروض، وتالياً على الراغبين بالإقتراض التفكير ملياًّ قبل الإقدام على هذه الخطوة. فالهدف النهائي لرفع الفائدة هو تخفيف حجم السيولة النقدية داخل السوق، وتالياً إبطاء عجلة الإستهلاك، على أمل أن يُساهم ذلك بهبوط الأسعار.

ولكي ينجح البنك المركزي في سحب السيولة من الأسواق، يجب أن يكون متأكداً، من أن رفع الفائدة الذي أقدم عليه، سيدفع في إنتقال السيولة إلى البنوك على شكل ودائع، حيث ستزيد الفائدة المرتفعة من رغبة المودع على التوفير. وهذا إستثمار بحدّ ذاته من خلال حسابات على فوائد عالية.

– إيطاليا ومعاناتها بين رفاقها في منطقة اليورو والإحراج الذي سيُسبّبه رفع الفائدة للبنك المركزي الاوروبي.

مجرد بدء البنك الأوروبي المركزي الحديث عن نيته إعادة النظر صعوداً في أسعار الفائدة، إتّجهت أنظار المستثمرين وحاملي سندات ديون إيطاليا إلى هذا البلد، وعلى الفور إرتفعت أسعار الفائدة على سندات إيطاليا بواقع 4 % للمرة الأولى عند هذا المستوى منذ العام 2014. وهذا الأمر إن دل على شيء فهو يدلّ على تراجع الثقة بسندات إيطاليا، وتالياً تراجع ثقة الأسواق حيال الإستقرار الإقتصادي في هذا البلد، صاحب ثالث أكبر إقتصاد في منطقة اليورو، بعد ألمانيا وفرنسا. فإيطاليا اليوم عليها ديون تُساوي أكثر من 150 % من ناتجها المحلي، وهي ديون تفاقمت من دون شك بسبب جائحة الكوفيد.

نسبةُ الدين المرتفعة هذه لدى إيطاليا، دقّت في الأسواق جرس العودة إلى إشعال فتيل أزمة المال في منطقة اليورو 2010 – 2011، حيث بلغت الفائدة على سندات إيطاليا السيادية حينها 7 %، وهذه النسبة أصبحت اليوم موضع مراقبة ولا سيما مقارنة بنسبة الفائدة على سندات ديون ألمانيا لعشر سنوات عند 1.6 %، ونسبة 2.2 % بالنسبة إلى السندات الفرنسية (Spread).

هنا تحديداً، برزت حال ترقّب لسعر الفائدة على سندات الدين السيادية الإيطالية لعشر سنوات. وهذه الفائدة المرتفعة تعود بالنفع على حاملي السندات الإيطالية، بينما إيطاليا تجد نفسها أمام تكلفة الفائدة عندما ستصل إلى لحظة السداد. لكن هنا أيضاً، ثمة خشية من تأخر السداد، ما يُجبر حاملي السندات على بيعها والتخلّص من أصول معرّضة للمخاطر.

لعلّ إصرار البنك المركزي الأوروبي على عدم تجزئة السوق الأوروبية بين إقتصادات الشمال، مثل ألمانيا وفرنسا، والجنوب مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان، دفعه للتريّث حتى الآن بإتخاذ قرار رفع الفائدة المركزية، إذ إن التداعيات ستكون متسارعة، وتالياً الوصول إلى فارق كبير في سعر الفائدة على السندات بين الشمال والجنوب. وهذا الحرص لدى البنك المركزي كان سائداً منذ أزمة اليورو في العام 2011.

هذا الفارق ساهم في منع تطبيق السياسة النقدية على الإقتصاد. النمو الإقتصادي في إيطاليا هذا العام أصبح مهدداً نتيجة تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، ويُقدّر بنحو 2.8 % خلال العام 2022، متراجعاً من نسبة متوقعة قبل الحرب على أوكرانيا بواقع 4.7 % بعد نسبة نمو حققها الإقتصاد الإيطالي في العام 2021 بواقع 6.6 %. البنك الأوروبي لا يريد اليوم رؤية أو حتى السماع بسيناريو العام 2011 مع عاصفة يونانية نارية ألهبت منطقة اليورو وإمتدت إلى إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وقبرص.

فالواقع الذي يعيشه الإقتصاد الإيطالي المتقلّب لا يستطيع مجابهة رفع فائدة البنك المركزي الأوروبي، حيث ستكون إيطاليا كغالبية بلدان اليورو مضطرة لتتبع تداعيات هذا الإرتفاع، وكل إقتصاد بحسب قدرته. فإيطاليا مع نسبة ديون مرتفعة قياساً لناتجها المحلي ونمو ضعيف مقارنة بغيرها في منطقة اليورو، واليوم مع فائدة مرتفعة في المنطقة، قد تكون عرضة لإهتزازات متكررة. وتجربة العام 2011 – 2012 دفعت بماريو دراغي رئيس الحكومة الإيطالية الحالي عندما كان رئيساً للبنك المركزي الأوروبي، بأن تصرّف في ذلك الوقت على أساس الحفاظ على وحدة السياسة النقدية وعدم السماح بتجزئة السوق الأوروبية.

– تأثير التضخم على سندات الديون

بسبب إرتفاع الأسعار، تتعرّض قيمة الأصول للتراجع، وتالياً يطالب حاملو السندات أي المقرضون للحكومات بنسبة فائدة أعلى على السندات التي يحملونها، وهذا ما يُفسّر المضاربة على أسعار سندات الدين وهبوط مؤشر البورصات، ويقوم المستثمرون ببيع أسهمهم غالباً للإستثمار في أماكن أكثر أماناً وأحياناً في الولايات المتحدة خوفاً من تكرار سيناريو 2011 – 2012.

في ذلك الوقت، وبعد أزمة مالية عالمية (2008)، قامت غالبية الدول بالإقتراض على نطاق واسع لمساندة بنوكها وحمايتها من الإنهيار. بعض الدول مثل اليونان تعرّضت ديونها للإنفجار وتخوّفت جهات إستثمارية عالمية وحتى منطقة اليورو، من أن تصبح اليونان عاجزة عن السداد، وتنسحب من منطقة اليورو وتعود إلى عملتها، وتوسَّع الخوف ليطاول إحتمال دخول إسبانيا في حقل ألغام الديون والتعثر.

– لماذا إيطاليا تُثير المخاوف اليوم؟

إيطاليا اليوم هي العنصر الأضعف في منطقة اليورو، حيث ينمو إقتصادها بنسبة متدنية على المدى الطويل، وتعاني من ديون بنسبة 153 % من الناتج المحلي ومرشحة للإرتفاع. وإستدانت إيطاليا بأحجام كبيرة خلال فترة جائحة الكوفيد لتزيد على الديون ديوناً. وتستدين اليوم على نسبة مرتفعة مقارنة بنسبة ديون ألمانيا وفرنسا على سبيل المثال لا الحصر.

ومنذ مطلع العام 2022 يقوم المستثمرون بحملة لبيع ديون إيطاليا، متوقعين مستقبلاً مظلماً ومطبّات للإقتصاد الإيطالي، ولا سيما مع تضخم غير مسبوق.

إيطاليا متضرّرة أيضاً من سياسة البنك المركزي الأوروبي، فإضافة إلى رفعه للفائدة، ينوي بنك أوروبا المركزي التوقف عن الدعم المادي للحكومات في منطقة اليورو في تموز/ يوليو 2022، من خلال سياسة التمويل المعروفة بالتيسير النقدي، وما يزيد وقف هذه السياسة عدم شراء ديون الحكومات. وهذا يُشكل ضربة موجعة لإيطاليا التي تُعتبر من أبرز المحتاجين لهذا الإجراء.

علماً أن البنك ترك الباب مفتوحاً لحالات خاصة ولبلدان معيّنة في إجراء مناقض للقرار الذي إتخذه. مَن يدري، ربما يكون هذا القرار باباً تستطيع إيطاليا من خلاله تلقي الدعم.

مازن حمود

محلل إقتصادي ومالي/ باريس