البنوك المركزية العالمية وتحدّي شبح التضخم
الولاياتُ المتحدة ترفع سعر الفائدة والمركزي الأوروبي يبقي عليه
لمواجهة إرتفاع معدل التضخم، البنوك المركزية مضطرة للإختيار بين سياستين.. إما الإبقاء على سياستها النقدية المتبعة في تبسيط سياسة القروض من خلال معدّلات فائدة متدنية، وإما رفع هذه الأخيرة. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة، ولم تفعله منطقة اليورو. مع معدّلات تضخم غير مسبوقة في المنطقتين حوالي 8% في الولايات المتحدة، وحوالي 6% في بلدان العملة الموحدة الأوروبية، إحتارت الآراء في الأسابيع الأربعة الأخيرة، إن كان السبب يقف خلف جائحة الكوفيد، أم الإجتياح الروسي لأوكرانيا الذي تسبّب برفع أسعار الطاقة والحبوب عالمياً، ليُصبح هذان العاملان في قفص الإتهام.
وإذا عُدنا إلى فترة ما قبل الكوفيد، عندما كان التضخم شبه عادي، وأقل من المعدّل الوسطي (2 %)، كانت ردّة فعل دول العالم على تداعيات الحرب في أوكرانيا، هي مساندة النشاط الإقتصادي من خلال مصاريف حكومية جديدة، وإحتمال متابعة سياسة التيسير النقدي والإبقاء على معدّلات الفائدة متدنية.
إنما الذي حصل اليوم مخالف تماماً، فإن المزيد من الدعم والمساعدات خلال الجائحة، إضافة إلى تكديس المواطنين أموالهم، نظراً إلى تراجع حركة الخروج والإستهلاك كالعادة، أدى في مرحلة تخفيف الإغلاق إلى إنفراجة إستهلاكية غير مسبوقة، أدت إلى إرتفاع الأسعار إلى مستويات لم تشهدها بلدان العالم منذ عقود، وباتت تُهدّد الإنتعاش الإقتصادي ما بعد الجائحة، إلاّ في بعض البلدان مثل الولايات المتحدة التي تعافت بسرعة، وتنعم بمعدّل بطالة متدن عند 3.9 % ومعدّلات نمو متسارعة مع ظاهرة تضخم مدعومة بإرتفاع الطلب، ولا سيما بعد تخفيف أو رفع موجة الإغلاق بسبب كورونا.
رحلةُ الولايات المتحدة مع سعر الفائدة من اليوم فصاعداً، لا شك في أنها ستكون متواصلة بعد رفعها بواقع ربع نقطة منتصف آذار/ مارس 2022، لتصل إلى 0.5 %، ما ترك هامشاً واسعاً أمام زيادات أخرى، إذا دعت الحاجة، وعلى ما يبدو أن الحاجة موجودة في حال زادت الضغوط الناجمة عن الإجتياح الروسي لأوكرانيا.
الإحتياطي الفدرالي من جهته، يهدف إلى تحقيق أقصى قدر من التوظيف والوصول إلى المعدّل الوسطي من التضخم (2 %) على المدى الطويل، ودعماً لهذا الهدف، إتخذ الإحتياطي خطوته غير المسبوقة منذ العام 2018.
إلى جانب خطوة رفع الفائدة المركزية، ينوي الإحتياطي الفدرالي أيضاً البدء بتقليص حيازاته من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة برهون عقارية، إعتباراً من إجتماعه المقبل في نيسان/ إبريل، ظاهرة إرتفاع التضخم في أميركا إلى حدود 8 %، يعكس إختلالات في العرض والطلب المتعلقة بالوباء، وإرتفاع أسعار الطاقة، وضغوط الأسعار الأوسع نطاقاً، ولا سيما المواد الغذائية والحبوب.
الإحتياطي الفدرالي، لم يخف خلال إجتماع لجنته الأخير، أن لجنة السياسة النقدية ستكون على إستعداد لتعديل موقف السياسة النقدية في الشكل المناسب، إذا ظهرت مخاطر قد تُعرقل تحقيق أهدافها.
إن الخيار الذي إتخذه الإحتياطي الفدرالي برفع الفائدة ربع نقطة، لن يمرّ مرور الكرام، حيث سيُلقي بظلّه على سياسة المصارف في القروض، حيث ستجد البنوك المركزية نفسها مضطرة لرفع الفائدة على زبائنها من مؤسسات وأفراد طالبي القروض، وقد تؤثر على النمو الإقتصادي في حال قصّرت القطاعات التي أنعشت النمو مؤخراً بأدائها.
ولا شك في أن الهدف المرجو للإحتياطي الفدرالي هو مرحلة عجلة الإستهلاك قليلاً لمكافحة الهجوم التضخمي الأعلى منذ مطلع الثمانينيات في القرن الماضي.
منطقة اليورو لم تتفاعل مع معدّلات التضخم لديها، كما تفاعلت الولايات المتحدة، مع قرار البنك المركزي الأوروبي للإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير، مع نية إنهاء شراء الأصول المرتبطة بالجائحة في نهاية آذار/ مارس 2022.
البنك الأوروبي المركزي الذي تعود له كما لباقي البنوك المركزية حول العالم، إدارة مستويات معدّل التضخم، أبقى منتصف آذار/ مارس أسعار الفائدة لإقراض البنوك عند 0 % دون تغيير، فيما أبقى على سعر فائدة ودائع البنوك لديه عند مستوى سلبي.
من هنا، سيشهد البرنامج تعديلاً على برنامج التيسير الذي يُجريه منذ الفترة التي سبقت تفشي الوباء. البنك الأوروبي المركزي قد يعود إلى سياسة القرار بالفوائد المركزية عندما ينتهي من سياسته في التيسير الكمّي، وبذلك تكون الصورة أكثر وضوحاً، ولا سيما مع مجريات الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على الأسعار، والتي تنعكس مباشرة على معدّل التضخم.
البنك المركزي الأوروبي، يجب أن يكون مستعدّاً أيضاً ليورو قوي، كحصيلة مباشرة لرفع الفائدة، وما لذلك من تأثير على حركة التجارة. مؤسسة التغذية الاوروبية لم تُغلق الباب كلياً على سياسة التيسير الكمّي، حيث تركت هامشاً للتحرك، معتبرة أنه إذا تغيّرت توقعات التضخم على المدى المتوسط، وأصبحت شروط التمويل غير متوافقة والهادفة إلى معدّل 2 %، فإن البنك المركزي الأوروبي على إستعداد لمراجعة جدوله الزمني الخاص بالبرنامج.
أما في ما يخص سعر الفائدة، فقد يجد البنك المركزي نفسه مضطراً في إجتماعه المقبل، للقيام بخطوة ما، ولا سيما أن منطقة اليورو أصبحت على موعد مع عودة النشاط الإقتصادي كما كان قبل الجائحة، مع ضبط تداعيات الحرب في أوكرانيا إلى حدّ ما، إلاّ إذا طال أمد الحرب، وأدّى ذلك إلى هبوط مزدوج للعرض والطلب على السلع معاً، وعندها ترتفع مستويات العجز، وتُصبح سياسة البنوك المركزية غير فعّالة، إلى جانب تحوّل التضخم إلى تضخم غير قابل للإنضباط، ما يؤدي تالياً إلى تراجع الثقة في العملة، وتُصبح الحكومات مضطرّة إلى اللجوء إلى سياسة رفع الضرائب لتمويل حجم الأذى الذي تسبّبته الحرب.