العقوبات تطورت أشكالها إلى أن إرتكزت
بشكل أساسي على المصارف وباتت تُطاول
الشركات والأفراد في آن واحد
لا شك في أن النقاش حول العقوبات الأميركية الإقتصادية والمالية التي تُفرض على الدول والمؤسسات والأفراد حول العالم ومنها الدول العربية، غالباً ما يكون دسماً بالمعطيات الجديدة والتفاصيل الإضافية، نتيجة التطورات القانونية والتشريعية التي تُدخل على هذه العقوبات بشكل مستمر. لذلك تم إطلاق تسمية «العقوبات الذكية» عليها كونها إرتكزت إلى عامل مهم في تطبيقها ألا وهو العولمة المالية والإقتصادية وسلطة الدولار المالية، التي سمحت للقانون الأميركي بالسريان في مختلف أصقاع العالم وعلى جميع مؤسساته وأفراده.
مفهوم هذه العقوبات، ينطلق من دفع الدول والأشخاص إلى تغيير سلوكهم من خلال تشويه سمعتهم ووصمهم بإرتكاب إنتهاكات تخالف القيم السياسية والحقوقية، وإنتهاك المعايير السلوكية المقبولة عالمياً، أما في التعريف القانوني، فهي وسيلة للضغط تمارسها الولايات المتحدة الأميركية، وقد تعني منع الشركات الأميركية في بعض الصناعات من تصدير سلعها إلى الدول المستهدفة، أو منع الكيانات التجارية في الدول المستهدفة من تسوية معاملاتها في البنوك الأميركية، وقد تشمل أفراداً بذاتهم.
إذاً، تُعتبر المشروعية والعدالة والموضوعية من المبادئ المهم مراعاتها عند تصميم العقوبات، حيث تبرز أهمية الإستناد إلى أساس مبدئي وقانوني، بأن تكون رداً على إنتهاكات القانون الدولي أو القواعد الأخلاقية الدولية، وقد ساعد الولايات المتحدة في فرض هيبة هذه العقوبات التوسع بإستعمال الدولار الاميركي في التعاملات الدولية، إذ إن الدول التي تستعمل الدولار في تعاملاتها التجارية، يجب أن تخضع لقوانين الأمم المتحدة تحت عنوان ما يُسمّى بـ my dollars my low، لذلك إستطاعت الولايات المتحدة وضع سلسلة من القوانين وإتخاذ مجموعة من التدابير، وباتت سيادة القوانين الأميركية أعلى من سيادة الدول.
تجدر الاشارة إلى أن من الدول العربية التي خضعت لعقوبات هي سوريا والعراق والسودان ومصارف وشركات وشخصيات من لبنان، لذلك من المفيد البحث في تأثير العقوبات الأميركية على إقتصادات الدول العربية ومصارفها، وفي المعايير الدولية التي يجب على الدول العربية إتباعها إقتصادياً ومصرفياً لتحقيق الهدف الدولي والأمان الداخلي.
ملف العقوبات تاريخياً
عجاقة: العقوبات الذكية هدفها عرقلة مسار
عمليات أفراد أو جهات أو مؤسسات إرهابية
يُقارب الخبير الإقتصادي والمالي الدكتور جاسم عجاقة، ملف العقوبات الأميركية من زاوية تاريخية، شارحاً لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أن «فرض العقوبات هو إجراء قديم، والتاريخ يذكر بأن أول دولة فرضت عقوبات هم الإغريق في العام 425 قبل الميلاد على جيرانهم، بهدف تعديل سلوكهم السياسي، لذلك عُرف أن هدف العقوبات سياسي»، مشيراً إلى أنه «بقيت الدول تمارس هذه العقوبات، ولكن كانت تحصل من دولة لأخرى، إلى أن تم وضع إطار نظري لها من قبل أحد علماء الإجتماع ليكون هدفها تحقيق السلام وتصويب سلوك الدول السياسي، وقد تبنّت الأمم المتحدة هذا المفهوم في ميثاقها، وأعطت القرار بفرض العقوبات لمجلس الأمن المخول وضعها على الدول التي تُعتبر أنها تقوم بسلوك يُهدد السلام العالمي (جنوب أفريقيا والعراق ومنظمة الخمير في كمبوديا)».
يضيف عجاقة: «ثم حصل تطور في العقوبات، وصارت الدول تفرض عقوبات إقتصادية حسب مصالحها. من ثم تمت مراجعة هذا النوع من العقوبات، لأن المتضرر الأساسي هم الشعوب، وكي لا تكون النتيجة عكسية»، مشيراً إلى أنه «بعد حصول الهجوم الإرهابي على مركز التجارة العالمي في العام 2001، إكتشف المحققون أن هذه العملية تمت نتيجة تمتع منفذي هذا الإعتداء بقدرات مالية هائلة. ومن هنا بدأ التفكير بفرض عقوبات من خلال المصارف، وتم خلق ما يُسمّى بالعقوبات الذكية، أي تلك التي تطاول أفراداً وشركات ومصارف ومنظمات عادية ونادراً ما تطاول دولاً».
ويُوضح عجاقة أن «العقوبات الذكيّة، هدفها عرقلة مسار عمليات أفراد أو جهات أو مؤسسات إرهابية، مثلاً في لبنان، هناك عقوبات على أفراد ومؤسسات، وليس هناك عقوبات على الدولة اللبنانية، لذلك نحن في عصر العقوبات الذكية، وليس عصر العقوبات على الدول»، مشدِّداً على أن «المفتاح الأساسي الذي يُوجع الجهة المستهدفة هو من خلال المصارف، ووضع شخص على لائحة العقوبات يعني تجميد حساباته في المصارف، وفي حال التخلف يصبح المصرف على لائحة العقوبات».
يُضيف عجاقة: «الولايات المتحدة يُمكنها فرض هذه العقوبات من منطلق حجم إقتصادها العالمي والذي يُوازي ربع الإقتصاد العالمي، ولأن الدولار هو العملة الأساسية للتجارة العالمية، وتجميد الأصول المالية لأي مودع، هو شلّ لحركته ومشاريعه المصرفية».
ويشرح أن «مهمة المصارف الأساسية هي التجارة، ولكن عليها الإنتباه إلى نشاط عملائها، ولهذا تم وضع نظام «إعرف عميلك»، وتأسيس وحدات الإمتثال في المصارف لكي تتمكن من التحقق من الزبائن والعمليات، وعدم مخالفتها القوانين المالية الدولية والمحلية ولا سيما القوانين الأميركية، وألاّ يكون العميل أو المؤسسة موجودين على لائحة العقوبات»، لافتاً إلى أن «هذا النوع من العقوبات أثبت فعاليته أكثر من العقوبات على الدول. علماً أن المصارف هي الذراع الأكثر أهمية حيال فرض العقوبات، والأكثر إيلاماً، إذ إن العقوبات يُمكن أن تطاول أفراداً ومؤسسات ودولاً. لذا فإن المصارف لديها مصلحة بالتقيّد بهذه القوانين كي تستمر في عملها».
العقوبات على مصرف معيّن
مارديني: الدولار عملة عالمية ما يُعطي السلطات الأميركية
القدرة على إستعماله لفرض العقوبات
من جهته، يشرح الخبير المالي الدكتور باتريك مارديني لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أنه «حين تفرض الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على مصرف معيّن في دولة معينة، يكون برأيها أن هذا المصرف يُقدم خدمات مصرفية لمجموعة مصنّفة إرهابية (كما هي الحال في بعض الدول العربية)»، مشيراً إلى أن «الهدف هو منع المصارف من تقديم خدمات لهذه المنظمات، وهذا النوع حصراً ينطبق على المصارف، كما حصل مثلاً مع «جمال ترست بنك» في لبنان، على سبيل المثال لا الحصر، وهي تختلف عن العقوبات التي تُفرض على الدول كما هو حاصل مثلاً مع سوريا».
يضيف مارديني: «في الحالة الأولى، تكون العقوبات المفروضة من وزارة الخزانة الأميركية مؤذية جداً على المصرف المعاقب، لأنه يتحوّل إلى مصرف «سام» حيث ينقل الأذى إلى الجهات التي تتعاطى معه وتشملها العقوبات أيضاً»، مشيراً إلى أنه «تلقائياً كل الجهات التي تربطها مصالح مع المصرف المُعاقب، تعمد إلى قطعها، وعندها يتدخل المصرف المركزي كي يُوقف عمليات المصرف، ويضع يده عليه ليعزل الضرر عن باقي القطاع المصرفي والإقتصاد»، موضحاً أنه «في لبنان، حين تم وضع بعض المصارف على لائحة العقوبات، عمدت المصارف اللبنانية إلى التقيّد الصارم بالقوانين المصرفية اللبنانية خوفاً من أن تلحقها الشبهات الكبيرة نتيجة التهاون في هذا الموضوع، لأنه في حال تم وضع أي مصرف على لائحة العقوبات، يجب أن يحصل تدخل سريع من قبل المصرف المركزي بغية تصفيته وتنظيفه».
ويلفت مارديني إلى أن «المصرف المركزي، لديه العديد من الخيارات لمعالجة هذا النوع من المشاكل، منها إقفال المصرف نهائياً مع حفظ حقوق المودعين غير المتورّطين بعمليات تمويل الإرهاب أو تبييض الأموال، وأيضاً يُمكنه حصر عمليات المصرف بالعملة المحلية إلى حين الإنتهاء من تصفيته»، مشيراً إلى أنه «في ما يتعلق بالدول، فالعقوبات لا تطاول كل القطاعات، والعقوبات التي فُرضت على سوريا مثلاً، حيث وُضعت على قطاعات معينة، وإستثنت قطاعات أخرى تمس حياة الناس مباشرة في الدولة المعاقبة، وهذا ما حصل في إيران مثلاً ولا سيما على المصارف المعاقبة، لكنها لم تشمل قطاع الأغذية أو تجارة الزعفران أو الملابس، بل العملة والسيارات وقطاع النفط والبنوك».
ويُوضح مارديني أن «معالجة هذا النوع من العقوبات أصعب بكثير من معالجة مصرف واحد، فالنقطة الأساسية في العقوبات، هي أن الدولار الأميركي هو عملة الإحتياط العالمي، والتي يحصل فيها التبادل التجاري، وهذا ما يُعطي السلطات الأميركية القدرة على أن تستعمل هذه الثقة بالدولار كي تفرض العقوبات، وبما أن جميع الدول تتبادل تجارياً بالدولار، فإن أياً من الدول العربية لا يُريد إفتعال مشكلة مع الولايات المتحدة».
حلُّ العقوبات بالتسوية السياسية
قرم: ثمة جهود دولية لإنشاء نظام مواز للنظام
النقدي الأميركي وهذا ما تقوم به الصين
أما على ضفة وزير المال اللبناني السابق الدكتور جورج قرم، فيُوضح لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أن «العقوبات التي تُفرض على الدول، يكون حلّها من خلال تسوية سياسية، وليس فقط من خلال الإجراءات الإقتصادية. فالولايات المتحدة تستعمل هذه الوسيلة مع أخصامها من الدول والشخصيات»، مشيراً إلى أن «الدول التي تتعرّض لعقوبات جماعية، عليها أن تخضع للسياسة الأميركية حتى يتم إلغاء الإجراءات العقابية».
يضيف قرم: «إن العقوبات على المصارف تعني تصفيتها، لأن الدولار هو العملة الدولية التي يتم التداول بها مع المصارف المراسلة، والعقوبات تعني وقف هذا التعاون مع البنوك المراسلة والدولار الاميركي»، لافتاً إلى أن «هناك جهوداً دولية لإنشاء نظام مواز للنظام النقدي الاميركي، وهذا ما تقوم به الصين التي تُعدّ من أكبر إقتصادات العالم، ويتم التبادل التجاري معها بالعملة الوطنية الصينية، والتي أصبحت عملاقاً إقتصادياً ومالياً ونقدياً، والتعاملات الصينية تكبر تباعاً وبعملتها الخاصة».
باسمة عطوي
– في العام 2015، أقرّ مجلس النواب اللبناني قانون مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال (رقم 44/2015)، وفيه حوالى 20 جريمة تدخل في إطار هذا العنوان. وقد جاء إقرار هذا القانون بعد تعديلات جرت عليه (كان قد أقرّ للمرة الأولى في العام 2001)، نتيجة مطالبات غربية بذلك.
– وفقَ أي قانون تعمل المصارف اللبنانية لمعاقبة الأشخاص المُدرجين على لائحة «أوفاك»؟ القرار الأساسي الرقم 12253 الصادر عن مصرف لبنان في 3 أيار/مايو 2016، يُلزم المصارف اللبنانية «تنفيذ عملياتها بما يتناسب مع مضمون القانون الأميركي الصادر بتاريخ 18/12/2015 ومضمون الأنظمة التطبيقية الصادرة بالإستناد إليه». والقانون الأميركي المذكور ينص، بحسب تعميم مصرف لبنان، على «وجوب إتخاذ التدابير التي تحول دون تعامل «حزب الله» مع أو من خلال المؤسسات المالية الأجنبية وغيرها من المؤسسات». واللافت أن مصرف لبنان المركزي، وضع القانون الأميركي في إطار «البناءات» التي بنى عليها قراره، إلى جانب قوانين لبنانية وقرارات وتعاميم صادرة عنه وعن المجلس المركزي لمصرف لبنان.
– قانون «ماغنيتسكي الدولي للمساءلة حول حقوق الإنسان»
وقَّع عليه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في العام 2012، وفي العام 2016 إعتمد الكونغرس النسخة الدولية من القانون الذي يمنح الرئيس الأميركي صلاحية فرض عقوبات على أي أجنبي متّهم بإنتهاك حقوق الإنسان، مثل القتل والتعذيب وغيرها من الإنتهاكات المنصوص عليها في لائحة حقوق الإنسان الدولية.
وفي العام 2017 وقَّع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الأمر التنفيذي رقم 13818، الذي «يجمّد ممتلكات الأشخاص المتورطين في إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو الفساد». ووفقاً للخزينة الأميركية، جرت معاقبة 101 من الأفراد والكيانات بموجب الأمر التنفيذي رقم 13818. كما إتخذت وزارة الخزانة الأمر منذ كانون الثاني/يناير 2017، إجراءات ضدّ أكثر من 460 شخصاً وكياناً، إتُهموا بالتورّط في أنشطة متعلّقة بإساءة حقوق الإنسان أو الفساد أو المشاركة في ذلك بشكل مباشر.
– «قانون قيصر»
في 17 حزيران/ يونيو 2019، دخل قانون حماية المدنيين في سوريا، المعروف بإسم «قانون قيصر» الأميركي، حيّز التنفيذ، وتمتد مفاعيله لخمس سنوات من تاريخ بدء التنفيذ، أي حتى العام 2024.
ويمنح القانون الرئيس الأميركي الحق في وقف العقوبات، إذا إرتأى أن الأفراد المعنيين بالنزاع، إنخرطوا في مفاوضات بنّاءة، ترمي إلى وقف العنف ضد المدنيين. ويُجيز هذا القانون مراقبة أعمال المصرف المركزي في مجال غسيل الأموال، كما يُجيز لوزير الخزانة الأميركية ضمن مهلة 90 يوماً من دخوله حيّز التنفيذ، أن يُحدّد ما إذا كانت هناك أسباب معقولة تقود إلى إعتبار أن المصرف المركزي السوري هو مؤسسة مالية ذات إهتمام رئيس بتبييض الأموال. وإذا صح ذلك، يعود إلى الوزير بالتنسيق مع الهيئات الفيدرالية المعنية فرض الإجراءات العقابية المنصوص عنها في القسم 5318 من القانون الأميركي.
– أقرّت الولايات المتحدة في العام 2021 تعديلات التشريعات الجديدة على قانون مكافحة غسل الأموال لعام 2020 الذي سنّه الكونغرس الاميركي كجزء من قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2021، والذي تضمّن مجموعة إلتزامات جديدة لمكافحة غسل الأموال/ AML على البنوك والمؤسسات المالية الأخرى.
– العقوبات على الأفراد، قد تشمل عدم السماح لهم بدخول الولايات المتحدة، أو تقييد السفر بشكل عام، أو تقييد وصول ذويهم إلى بعض مزايا المجتمع الأميركي، مثل المؤسسات التعليمية والسياحة، وبطبيعة الحال تشمل العقوبات على الأفراد تجميد الأصول ومصادرتها ومنع الوصول إليها.