القطاع المصرفي اللبناني في حالة إنتظار…

Download

القطاع المصرفي اللبناني في حالة إنتظار…

مقابلات
العدد 500 - تموز/يوليو 2022

القطاع المصرفي اللبناني في حالة إنتظار…

إعادة الهيكلة تمهيداً للإتفاق مع صندوق النقد الدولي

 ليس سرّاً، أن القطاع المصرفي في لبنان في حالة إنتظار، ولا سيما حيال  إقرار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي خطة التعافي للخروج من الأزمة الحالية التي يتخبّط لبنان بها، وتوقيع إتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي، والذي يقضي بإجراء إصلاحات جوهرية في بنية الإقتصاد اللبناني، أبرزها إعادة هيكلة القطاع المصرفي تمهيداً لتوقيع إتفاق نهائي، يُمكّن الصندوق من مدّ يد المساعدة للبنان.

سببُ هذا الإنتظار هو ضرورة تشكيل حكومة جديدة تُكمل ما بدأته الحكومة الحالية، وأن يُقرّ مجلس النواب الجديد كل القوانين والتشريعات التي تسمح بتنفيذ الإصلاحات التي يُطالب بها صندوق النقد الدولي، وهذا ما تُعوّل عليه جمعية المصارف اللبنانية حيال عدم حدوثه، كونها من أبرز المعترضين على خطة الحكومة لإعادة هيكلة القطاع لأنها تُحمّل برأيها، جزءاً كبيراً من الخسائر للمصارف والمودعين، وليس لمصرف لبنان والدولة اللبنانية، مما ينعكس سلباً على صورة القطاع ودوره المستقبلي.

أمام هذا التباين في وجهات النظر حول تشخيص المشكلة وسُبل حلّها، تُحاول مجلة «إتحاد المصارف العربية» إظهار وجهة نظر الجانبين، أي المؤيدين للإجراءات التي يطلبها صندوق النقد الدولي والمعارضون لها، لسبب أساسي مفاده أن القطاع المصرفي كان العمود الفقري للإقتصاد اللبناني والشرايين الأساسية التي تُغذي الدولة اللبنانية، وتنمّي قطاعاتها، وتالياً، فإن الضرر الكبير الذي أصابه منذ بداية الأزمة، إنعكس على كل مناحي الحياة وتفاصيل عيش المواطن اللبناني.

عادل أفيوني وزير الدولة السابق لشؤون الإستثمار والتكنولوجيا والخبير المصرفي:

لا نحتاج بأن تلعب المصارف دور الوسيط بين المودع والدولة

يُشدّد وزير الدولة السابق لشؤون الإستثمار والتكنولوجيا والخبير المصرفي عادل أفيوني لمجلة «إتحاد المصارف العربية» على أنه «ينظر إلى صندوق النقد الدولي وفقاً لمقولة «آخر دواء الكي»، والتي غالباً ما تكون حلوله موجعة وأحياناً غير ناجحة، لكن عندما يُصبح المصدر الوحيد للحصول على التمويل والسيولة بالعملات هو صندوق النقد، فهذا أهون الشرّين»، ويؤكد في المقابل أن «أي مقاربة أو إتفاق معه يجب أن تحفظ حقوق المودعين ولا سيما صغارهم».

كيف ذلك؟ يُجيب أفيوني: «نعاني في لبنان عجزاً مزدوجاً ومنذ سنوات: عجزاً قياسياً في الموازنة، وعجزاً قياسياً في الحساب الجاري. وقد أمعنت السلطات طوال سنوات في تجاهل هذا العجز المزدوج، وموّلت كلاً منهما من أموال المصارف، أي عملياً من أموال إستدانتها من المودعين وبلا حدود ولا مسؤولية وحتى الإنهيار»، لافتاً إلى أنه «عندما جلست الدولة اللبنانية أمام صندوق النقد الدولي، كان يجب أن تُوفّق بين دورين، الأول يتمثل بدولة متعثّرة تسعى إلى الدعم في مقابل إعادة هيكلة ديونها وتخفيف أعبائها، والثاني يتمثّل بمصلحة مئات الآلاف من العائلات اللبنانية، فيما صناديق التقاعد خسرت أموالها وتقاعدها وجنى عمرها وعمر المواطنين، وهذه كارثة إجتماعية لا يُمكن تجاهلها».

يرى أفيوني أنه «كان على الطرف اللبناني أن يدخل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي حاملاً لواء الدفاع عن المودع اللبناني، ومتمسكاً بخصوصيات الأزمة اللبنانية، لأنه أهم دائن وأكبر ضحية، وهذه قضية حق وعدالة، وهذا أمر ممكن من خلال مبادئ وأفكار لتحسين موقعه في أي إتفاق مع صندوق النقد، وهذا ليس أمراً سهلاً أبداً، لكن من الضروري المحاولة مجدداً. لأن الأخطر من عدم الإتفاق هو أن نُوافق على برنامج قاس وغير واقعي، يكون مصيره الفشل وتداعياته قاسية على الشعب».

ويؤكد أفيوني أن «الدولة مسؤولة عن ديونها، كذلك عن البنك المركزي. وخصوصاً الديون المترتبة على «المركزي»، جرّاء حلوله محل الدولة في الإنفاق، مثل تسديد «اليوروبوندز» في الماضي، وسُلف الخزينة والكهرباء، والإنفاق على الدعم… الخ. هذه الديون سببُها الدولة، ويجب أن تتحمّل مسؤوليتها تماماً، كما تتحمّل مسؤولية «اليوروبوندز»، لافتاً إلى أنه «تطبيقاً لذلك، يجب إصدار سندات من الدولة تُسجل كل هذا الإنفاق من الإحتياط، نيابة عن الدولة كدين عام، ويستفيد من هذه السندات المودعون مباشرة (وليس المصارف) لتعويض بعض خسائرهم الناتجة عن إستعمال الدولة للإحتياط لتلبية مسؤولياتها من أموالهم».

يضيف أفيوني: «لا يجوز معاملة حاملي «اليوروبوندز»، وهم الذين أقرضوا الدولة مباشرة، بطريقة أفضل من معاملة حاملي سندات البنك المركزي، الذين أقرضوا «المركزي» وعبره الدولة، وخصوصاً أن حاملي سندات البنك المركزي يُمثلون أموال المودعين أي عامة الشعب اللبناني، بينما غالبية حاملي «اليوروبوندز» اليوم هم مستثمرون محترفون وكثير منهم مؤسسات أجنبية متمرّسة بالمخاطر، وتستثمر عن دراية ومعرفة»، مشدِّداً على أنه «يجب نقل أي حقوق للمصارف على الدولة أو البنك المركزي إلى المودعين مباشرة. أي لا نحتاج إلى أن تلعب المصارف دور الوسيط بين المودع والدولة. فالمصارف يُديرها المساهمون، وهي أثبتت أنها تُدافع أولاً عن حقوقهم، لا عن حقوق المودعين، وهي عملياً أفلست بكل الأحوال. وهذا بديهي حسب مبادئ التراتبية في توزيع الحقوق والخسائر».

ويرى أفيوني أنه «يجب على الدولة أن تُنشئ صندوق تعويض مالياً مستقلاً لضحايا الإنهيار المالي، ولتخفيف وطأة الكارثة الإجتماعية على المودع اللبناني، والهدف من الصندوق أن تتحمّل الدولة مسؤولياتها تجاه المودعين العاديين، وعلى الأخص المواطن اللبناني الذي خسر مدّخراته، إذا كان مصدرها شفافاً ونظيفاً، ولا يستفيد من الصندوق إلاّ مَن يستحق ذلك حسب معايير واضحة».

 في المقابل، يُشدّد أفيوني على أنه «ليست خطة صندوق النقد الدولي ولا خطة حكومة الرئيس ميقاتي هي التي أدت إلى الحال السيئة التي يعيشها القطاع المصرفي، بل إن إنهياره بدأ منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وحتى قبل ذلك، لأنه توقف عن دوره في تمويل الإقتصاد، وفي رد ودائع المودعين»، لافتاً إلى أن «الأزمة الحالية سببُها خسائر المصارف وخطة صندوق النقد لم يتم إختراعها، بل هي موجودة بالأرقام، ولا يُمكن التهرّب من هذه الحقيقة، بمعنى أن المصارف حين أودعت المصرف المركزي نحو 85 مليار دولار أي أكثر من 60 % من ودائع الناس، كانت تتجاهل مبادئ بديهية في إدارة المخاطر والتنوع والحذر، وهذا يعني أن سياسة المصارف الإستثمارية متهوّرة. علماً أن أرقام المصرف المركزي كانت واضحة، وتدلّ على أن المخاطر كانت عالية بدليل الفوائد العالية».

ويشير أفيوني إلى أن «المصارف سجّلت أرباحاً من خلال هذه الإستثمارت، لأنها تتقاضى من «المركزي» فوائد عالية جداً، وبدلاً من الإحتفاظ بهذه الأرباح كمؤونة، لأن المخاطر كانت كبيرة، وزّعت جزءاً كبيراً منها على المساهمين»، معتبراً أن «تذرّع المصارف بأن الدولة هي السبب، وعليها تعويض الخسائر بالمصرف المركزي عبر إستخدام أصول الدولة، هو مركز الخلاف اليوم».

ويؤكد أفيوني أن «الجواب على هذا الطرح، هو لا يحق إستخدام أصول الدول لتعويض خسائر المصارف بدل إستخدامها لخدمة الشعب اللبناني ككل، وليس هناك سبب قانوني وعدالة إجتماعية تُبرّر ذلك»، مشدِّداً على أن «كل ذلك لا يمنع من أن تتحمّل الدولة اللبنانية مسؤوليتها تجاه المودع اللبناني المُحتاج فعلاً، وليس المستثمر الذي كان يُضارب من أجل الإستفادة من فوائد عالية أو الأجنبي الذي كان يستخدم المصارف لتحقيق فوائد عالية، لذلك، إن الدولة مسؤولة عن المواطن اللبناني الذي خسر جنى عمره ومستقبله، وعليها تعويضه بشكل أو بآخر. أما المصارف فخسرت عن سابق علم  ودراية، وقبل الخسائر والإنهيار، حققت أرباحاً طائلة».

نسيب غبريل،  رئيس مركز الأبحاث في بنك بيبلوس:

* إستسهال حل المشكلة وعمل محاسبي

* إذا دمَّرنا القطاع المصرفي كيف يُمكن إستعادة ثقة المستثمرين

والمودعين للإستثمار فيه؟

على ضفة القطاع المصرفي، يشرح رئيس مركز الأبحاث في بنك بيبلوس نسيب غبريل لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أن «الخطة الإنقاذية التي قدمتها الحكومة اللبنانية لصندوق النقد الدولي تمهيداً لتوقيع إتفاق معه، تتضمّن 9 إجراءات مسبّقة على لبنان تطبيقها، والإلتزام بها حتى يمنح الصندوق قرضاً بقيمة 3 مليارات دولار»، لافتاً إلى أن ثمة «8 من أصل 9 نقاط لها علاقة مباشرة بالقطاع المصرفي اللبناني، ومنها إقرار الحكومة إستراتيجية لإعادة هيكلة القطاع وموافقة مجلس النواب على هذه الإستراتيجية،  وتكليف شركة دولية مختصة لتقييم أكبر 14 مصرفاً في السوق اللبنانية، وقياس ملاءتها وتمتّعها بالسيولة اللازمة، وتوحيد أسعار صرف الدولار في السوق اللبنانية، وإقرار قانون «الكابيتال الكونترول»، وتحديد الفجوة المالية بين مصرف لبنان المركزي والمصارف، والإعتراف بهذه الخسائر، وإحتسابها فوراً على كل من المصارف والمودعين».

يُضيف غبريل: «يعتبر صندوق النقد الدولي، أن رأسمال المصارف، لن يكون كافياً لسداد هذه الفجوة، ويجب أن تُلغى السندات المصرفية، وعلى المودعين تحمّل ما تبقّى من خسائر هذه الفجوة، وعلى المصارف التي ستستمر في القطاع، القيام بإعادة رسملة بأموال جديدة»، لافتاً إلى أن «المشكلة هي في تحميل المودعين الجزء الأكبر من الخسائر، فكيف يُمكن أن تعود الثقة بالمصارف بحيث تدفع مستثمراً حالياً أو مودعاً حالياً أو محتملاً، إلى أن يستثمر مجدداً في القطاع المصرفي؟».

ويسأل غبريل: «أين هي الإصلاحات الباقية، إذا كان العنوان العريض لأي خطة إصلاحية هي إستعادة الثقة؟ وإذا دمّرنا القطاع المصرفي، فكيف يُمكن أن نستعيد مجدداً ثقة المستثمرين والمودعين  للإستثمار في القطاع؟»، معتبراً أنه «لا يُمكن تدمير القطاع وتحميله هذه الخسائر، لأن هناك ترابطاً بين ميزانيتي مصرف لبنان المركزي والمصارف، وبدل أن تتعهّد الدولة تسديد إستحقاقاتها ودفع ديونها، قامت خطة الحكومة بشطب هذه الديون (60 مليار دولار من ميزانية مصرف لبنان، و60 ملياراً من ميزانية المصارف التجارية بشكل خسائر)، على أن يتم إعطاء المودعين أسهماً في هذه المصارف».

ويرى غبريل أن «هذه الخطوات هي إستسهال لحل المشكلة وعمل محاسبي، وليس إعادة هيكلة للقطاع بهدف تنظيمه»، مشدِّداً على أنه «ليس بهذه الطريقة يُمكن إعادة الثقة للقطاع، لأن مصرف لبنان هو مؤسسة عامة، وحسب قانون النقد والتسليف، إن الدولة اللبنانية هي المسؤولة قانوناً عن إعادة رسملة مصرف لبنان كمؤسسة عامة، وإعادة الملاءة له. من هنا يجب أن تبدأ الحكومة، ومن ثم يتم البحث في الحاجة للوصول إلى المصارف التجارية والمساهمين والمودعين أخيراً، ولكن بطريقة لا تُحمّلهم القسم الأكبر من الخسائر».

ويعتبر غبريل أنه «لا يُمكن التعامل مع هيكلة القطاع المصرفي بهذه الطريقة، بإعتبار أن الدولة لا يُمكن أن تُوفر الأموال اللازمة، ولا تملك أُصولاً. لا أحد يطلب من الدولة أن تدفع فوراً كل الودائع الموجودة في القطاع المصرفي، لكنها تملك أصولاً، وسوء إدارة هذه الأصول وإهمالها هو الذي أوصلنا إلى الأزمة»، مشيراً إلى أنه «يُمكن للدولة اللبنانية أن تتعهّد تسديد إلتزاماتها والإيفاء بتعهداتها على فترات زمنية طويلة، بعد جدولة الدين العام ومن دون فوائد، عندها يُمكنها أن تدفع للمصرف متوجباته، ومن ثم يُمكنه أن يُعيد الأموال للمودعين».

ويُشدّد غبريل على أن «إعادة الهيكلة، يجب أن تحصل بطريقة تُعيد الثقة للمودعين والمستثمرين، لأن تطبيق الخطة كما هي، لن يُعيد القطاع المصرفي، وصندوق النقد الدولي أبلغ جمعية مصارف لبنان، أنه على المصارف أن تُعيد رسملتها بأموال جديدة، فكيف يُمكن تشجيع المستثمرين على إعادة الإستثمار في لبنان من جديد؟»، معتبراً أنه «رغم أهمية إعادة هيكلة القطاع المصرفي، فإنه يجب ألاّ يكون هذا الأمر في المرتبة الاولى، بل يجب أن تُرافق الهيكلة، إصلاحات في القطاعات التي تعاني سوء إدارة، مثل الكهرباء والإتصالات، ومعالجة حجم القطاع العام ودعم النمو، وتحسين مناخ الإستثمار وتطوير بيئة الأعمال».

ويلفت غبريل إلى أن «القيام بهذه الخطوات بجدية، يُمكن أن يُسهّل عملية هيكلة القطاع المصرفي بطريقة تدريجية، وبحسب تسلسل المسؤوليات، أي الدولة اللبنانية ومصرف لبنان والمصارف، وليس عن طريق تحميل المودعين الجزء الأكبر مما يُسمّى بالخسائر».

ويشرح غبريل أن «مجلس النواب الجديد، عليه إقرار قوانين لها علاقة بالخطة («الكابيتال كونترول»، وتعديل قانون السرية المصرفية ومشروع قانون موازنة 2022) وعلى اللجان النيابية إتخاذ القرار في شأنها. كما أن هناك مشروع قانون في مجلس النواب لإعادة هيكلة القطاع المصرفي لم يصل بعد إلى اللجان النيابية. وهذه القوانين هي شروط مسبّقة حتى يقبل بها صندوق النقد الدولي بغية توقيع الإتفاق مع لبنان».

 ويختم غبريل قائلاً: «إن أي خطة إنقاذية يجب أن يكون عنوانها الأساسي وهدفها المُطلق هو إعادة الثقة بالقطاع المصرفي، وهذا الأمر لا يحصل بتهرُّب الدولة من مسؤولياتها، أو بالإستمرار في ممارسة السياسة التدميرية عينها التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه. وأعتقد أن الذهنية السياسية في مجلس النواب لم تتغيّر».

مجلة إتحاد المصارف العربية