الميزان التجاري للاتحاد الأوروبي .. عوامل القوة والضعف

تلعب التجارة دورا حيويا في اقتصادات الدول، فهي العمود الأكبر في ميزان المدفوعات الذي يوفر النقد الأجنبي للدولة، وقد بلغ حجم التجارة الدولية بحسب منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” 28.5 تريليون دولار لعام 2021، وذلك أعلى من مستويات ما قبل الجائحة بنحو 13 في المائة. وتشكل التجارة الدولية نحو 30 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، إضافة لإسهامها في حجم التوظيف، الذي بحسب منظمة العمل الدولية هناك وظيفة واحدة من كل خمس وظائف مرتبطة بالتجارة الدولية.
في هذا التقرير وتقارير لاحقة نقوم بإلقاء نظرة عن كثب على الميزان التجاري لبعض الدول ونتعرف على طبيعة التجارة الدولية فيها وأهم السلع والخدمات المتداولة، ونبدأ هنا بالاتحاد الأوروبي.
ما المقصود بالميزان التجاري وميزان المدفوعات؟
الميزان التجاري هو جزء من ميزان المدفوعات للدولة ويختص برصد حركة الصادرات والواردات السلعية والخدمية للدولة. أما ميزان المدفوعات فهو على مسماه عبارة عن كفتي ميزان متعادلتين: في الكفة الأولى هناك الحساب الجاري وفي الكفة الأخرى هناك الحساب المالي، ومن المفترض أن تتساوى الكفتان في جميع الأوقات. الحساب الجاري يشمل الميزان التجاري، إلى جانب التحويلات المالية من وإلى الخارج، إضافة إلى أي دعم مالي قامت به الدولة أو تلقته من دول أخرى. أما الحساب المالي فهو يرصد جميع الحركات التمويلية من وإلى الدولة ويشمل الأوراق المالية على وجه الخصوص.
لذا يمكننا القول إن الأموال الخارجة من الدولة عن طريق الحساب الجاري يجب أن يتم تمويلها من الحساب المالي، وإن أي أموال داخلة إلى الدولة من خلال عمليات الحساب الجاري يجب أن تخرج عن طريق الحساب المالي. فمثلا لو أن دولة لديها صافي عمليات تصدير واستيراد بعجز مقداره مائة مليار دولار، أي تسرب هذا القدر من العملة الأجنبية إلى الخارج، ففي هذه الحالة يجب أن يكون هناك مائة مليار دولار داخلة إلى الدولة لتتساوى كفتا ميزان المدفوعات، ويتم ذلك من خلال إصدار سندات دولية أو اقتراض من جهات معينة لتصحيح الاختلال في الميزان.

الفرق بين حجم الاقتصاد وحجم التجارة الدولية
من المهم التفريق بين حجم الاقتصاد لدولة ما، أو للاقتصاد العالمي ككل، وبين حجم التجارة الدولية للدولة. فحجم الاقتصاد يحسب غالبا بالناتج المحلي الإجمالي للدولة ويشمل جميع منتجات الدولة خلال فترة زمنية معينة، بينما حجم التجارة الدولية للدولة يختص فقط بالصادرات والواردات السلعية والخدمية خلال فترة زمنية معينة. مثلا بلغ حجم الاقتصاد العالمي عام 2021، بحسب صندوق النقد الدولي، 94 تريليون دولار، بينما حجم التجارة الدولية 28.5 تريليون دولار، علما أن أربع دول في العالم تشكل نحو نصف حجم الاقتصاد العالمي، وهي أمريكا والصين واليابان وألمانيا، وهي تقريبا ذاتها التي تتمتع بأعلى قيم للتجارة الدولية.
الاتحاد الأوروبي .. أقل فائض في 10 أعوام
حقق الميزان التجاري للاتحاد الأوروبي في 2021 فائضا بقيمة 80 مليار دولار، وهو أدنى فائض منذ عشرة أعوام، حيث غالبا ما يكون هناك فائض في حدود 200 مليار دولار سنويا، وقد كان أعلى فائض في 2016 حين بلغ 286 مليار دولار. ومنذ منتصف 2011 والاتحاد الأوروبي يسجل عجزا شهريا متواصلا إلى الآن، علما أن الميزان التجاري الأوروبي كان يحقق عجوزات سنوية ما قبل 2012.
بلغت صادرات الاتحاد الأوروبي العام الماضي 2.6 تريليون دولار ليأتي في الترتيب الثاني عالميا بعد الصين في مجال الصادرات، وبلغت واردات الاتحاد نحو 2.5 تريليون دولار، وبذلك يأتي في المركز الثالث بعد الولايات المتحدة، وبذلك تكون حصة الاتحاد الأوروبي من حركة التجارة العالمية نحو 9 في المائة.

ما مصادر قوة الاتحاد الأوروبي في التجارة الدولية؟
ألمانيا مصدر قوة التجارة الأوروبية
السر في ضخامة حجم التجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي نجده في ألمانيا، فمن خلال تحليل بيانات التجارة لعام 2021، نجد أن صادرات ألمانيا بمفردها إلى خارج الاتحاد الأوروبي بلغت 752 مليار دولار، ما يعني أن نحو ثلث الصادرات الأوروبية مصدرها ألمانيا. وبإضافة صادرات فرنسا وإيطاليا نجد أن نصف الصادرات الأوروبية من نصيب هذه الدول الثلاث، بينما الدول الأوروبية الـ 24 الباقية مسؤولة عن النصف الآخر من الصادرات.
أسباب تفوق الاتحاد الأوروبي في تجارة السلع والخدمات
هناك أسباب إجرائية/ تنظيمية دفعت بالاتحاد الأوروبي إلى التميز تجاريا، فبالإضافة لكونه أكبر مصدر للسلع المصنعة في العالم، وفقا للمفوضية الأوروبية، وتميزه بصناعة المنتجات ذات الجودة العالية، فقد أحدث الاتحاد فتحا عالميا للاقتصاد في منطقته بسبب انخفاض نسب الرسوم والتعريفات على واردات المنتجات الصناعية نتيجة للاتفاقيات الثنائية، سواء مع الصين أو اليابان أو كندا وأستراليا أو غيرها. كذلك يتمتع الاتحاد الأوروبي بنظام الأفضلية الذي هو عبارة عن نظام تزال فيه الرسوم تلقائيا عن منتجات الدول النامية الضعيفة، إضافة إلى أن الاتحاد الأوروبي يتميز بسهولة الوصول إلى الأسواق من خلال اتفاقيات MRA، وهي اتفاقيات تمكن من خفض تكاليف شهادة المنتج الإلزامية ووقت الحصول عليها. كما أن هناك عوامل أخرى تميز الاتحاد الأوروبي كإعفاء المنتجات التكنولوجية من الرسوم، ما أدى إلى زيادة منتجات تكنولوجيا المعلومات أربعة أضعاف ما كانت عليه سابقا.
5 منتجات أساسية تستحوذ على نصف صادرات الاتحاد الأوروبي
للتعرف إلى طبيعة الصادرات الأوروبية نستعرض فيما يلي أهم الصادرات في الأعوام القليلة الماضية.
السيارات
على مدار الأعوام الخمسة الأخيرة استحوذت خمس سلع أساسية على المراكز الأولى في قائمة الصادرات للاتحاد، وأشهر هذه السلع كانت السيارات، التي يصدر منها الاتحادي الأوروبي نحو نصف ما يتم إنتاجه سنويا. وتشكل صناعة السيارات هناك 8 في المائة من حجم الاقتصاد ويعمل بها 13 مليون أوروبي، علاوة على أن 20 في المائة من ماركات السيارات العالمية بمختلف جنسياتها يتم إنتاجها في أوروبا، حيث تتم الاستفادة من اتفاقية التجارة الحرة للاتحاد الأوروبي، التي خفضت التعريفات الجمركية لمصنعي السيارات العاملة في الاتحاد الأوروبي.
إحدى أهم الركائز أيضا في تفوق الصناعة الأوروبية هو أن هناك نموا متواصلا في الصرف على البحث والتطوير، وصل إلى 189 مليار يورو في 2019، وذلك في المركز الثاني بعد الولايات المتحدة. وعلى الرغم من ذلك هناك عديد من المخاطر المستقبلية، التي تحيط بالصناعة وتصديرها، بينها على سبيل المثال أن سوق السيارات لدى الولايات المتحدة، الذي يعاني اختلالا بين الإنتاج والاستهلاك يسعى لفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي، الذي يصدر له نحو 17 في المائة من صادرات السيارات. وبأخذ حالة الطلب المحلي الضعيفة في الاتحاد الأوروبي مقارنة بالإنتاج، يستنتج من ذلك أن صناعة السيارات لن تحافظ على استمرارية تفوقها وربما يؤدي ذلك بها إلى صعوبات بالغة على صعيد المنافسة العالمية.
المنتجات الصيدلانية
يعد الاتحاد الأوروبي رائدا عالميا في صادرات المنتجات الصيدلانية، التي يستحوذ الاتحاد فيها على المركز الثاني عالميا، بعد الولايات المتحدة، بإجمالي 267 مليار دولار في 2021، وهو ما يمثل 2.5 ضعف واردات الاتحاد من المستحضرات. وتسهم المنتجات الصيدلانية في أكبر فائض تجاري من بين جميع السلع التي يتم تصديرها، ويتضح ذلك خلال الـ20 عاما الماضية التي نهض فيها الفائض التجاري للمنتجات الصيدلانية تسعة أضعاف ما كان عليه قبل أعوام قليلة.
على سبيل المثال نحو 90 في المائة من الشركات المنتجة للقاحات بشتى أنواعها قائمة على الأراضي الأوروبية، وعلى الرغم من ذلك هناك عدد من المخاطر التي تهدد استمرارية هذا التفوق، من بينها حماية الملكية الفكرية. فكلما ضعفت هذه الحماية في الدولة التي يتم التصدير إليها، مثل الصين التي تمثل الأدوية المزيفة فيها بين 10 إلى 25 في المائة من إجمالي المبيعات، كلما أتاح ذلك الفرصة للمنتجين المحليين على إعادة إنتاج المستحضر محليا، وبالتالي التأثير في سعر المنتج بالسوق. إلى جانب الملكية الفكرية تعد تراخيص السوق عائقا آخر أمام غزو أسواق مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل، فلا بد على الاتحاد الأوروبي الامتثال لمتطلبات مختلفة وتراخيص قد تأخذ وقتا طويلا جدا، كإجراء تجارب سريرية محلية للحصول على الترخيص للمنتج.
المواد والمنتجات الكيماوية
تحتل الكيماويات مراكز متقدمة في صادرات الاتحاد الأوروبي، وأيضا واردته، التي بلغت 192 مليار دولار العام الماضي، إلا أن الميزان التجاري لهذا القطاع استطاع تحقيق فائض بنسبة 22 في المائة، بقيادة ألمانيا التي استطاعت منفردة التصدير بما قيمته 64 مليار دولار، وذلك ضعف وارداتها من خارج الاتحاد. صناعة الكيماويات من أكبر قطاعات التصنيع في أوروبا، وأهميتها تنبع من دعمها لتحسين مستوى المعيشة وتوليد فرص العمل والثراء، فمن خلال مبيعات تصل إلى 657 مليار يورو سنويا داخل الاتحاد استطاعت الصناعة توفير 1.2 مليون وظيفة، وفقا للمفوضية الأوروبية، إضافة إلى توفيرها 3.6 مليون وظيفة غير مباشرة ودعم 19 مليون وظيفة عبر سلاسل التوريد. أما أكثر التحديات التي تواجه صناعة الكيماويات الأوروبية فهي الاستهلاك الكثيف للطاقة، التي تعتمد فيها أوروبا على الاستيراد من روسيا ودول الخليج وغيرها. على سبيل المثال في 2020 كان استهلاك أوروبا من النفط 3.5 ضعف حجم إنتاجها، إلى جانب تأثير سياسات المناخ، التي تعمل الدول الأوروبية على وضع خطط بشأنها لخفض استخدامات الطاقة الكربونية، إضافة إلى ذلك يخضع قطاع الكيماويات إلى ما يسمى تأثيرات التكلفة التراكمية بسبب حاجته الشديدة إلى التنظيم وحماية سلامة العمال وصحة المستهلك والبيئة، وجميع هذه الأسباب أدت إلى انخفاض متتال من الإنتاج الأوروبي من الكيماويات كنسبة من الإنتاج العالمي، وهو ما قد ينعكس لاحقا على حجم صادراتها من الكيماويات.
الآلات والمعدات
على شاكلة المواد والمنتجات الكيميائية، ظهرت الآلات والمعدات كأحد أهم صادرات الاتحاد الأوروبي وأيضا وارداته خلال 2021، حيث حقق الاتحاد فائضا منه في الميزان التجاري بقيمة 172 مليار دولار وبنسبة 109 في المائة. تستحوذ أوروبا في كتلتها على ريادة تصنيع الآلات عالميا لامتلاكها حصة تتخطى الثلث من الإنتاج العالمي، وتسبق بذلك الصين، التي لديها حصة تبلغ 29 في المائة، ويعود ذلك إلى قوة التصنيع الألمانية، التي تسهم بمفردها بـ 15 في المائة من السوق العالمية، حيث تعد شركة “ترامبف” الألمانية لتصنيع الآلات الصناعية ثاني أكبر شركة من حيث الإيرادات، التي تجاوزت 3.5 مليار يورو خلال العام المالي 2020/2021.
الكمبيوتر والبصريات والإلكترونيات
رغم وجود أجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات ضمن أعلى خمس سلع يصدرها الاتحاد الأوروبي، إلا أن هناك عجزا في ميزانها التجاري يتخطى 70 في المائة، حيث كانت أكبر مستوردي هذه الأجهزة دولة هولندا، التي تخطت وارداتها منها الثلث، ويعود ذلك بسبب ما يعرف بالتجارة شبه العابرة، حيث يستورد الأشخاص أو الجهات غير المقيمين بضائع من دولة خارج الاتحاد الأوروبي ويرسلونها مرة أخرى إلى دولة عضو. بالإضافة إلى أن عدد شركات قطاع التصنيع عالي التقنية في الاتحاد الأوروبي تمثل 0.2 في المائة فقط من إجمالي الشركات هناك، وأكثر من نصفها يقع في أربع دول فقط: ألمانيا وإيطاليا وبولندا والتشيك.
واردات الاتحاد الأوروبي
لدى الاتحاد الأوروبي خمس سلع رئيسة يستوردها من الخارج، فبالإضافة إلى الثلاثة قطاعات السابقة، لدى الاتحاد الأوروبي واردات سلع أخرى ضرورية، أولها منتجات الطاقة التي تشمل النفط الخام والغاز الطبيعي، حيث بلغت واردات الوقود ومنتجات التقطير والزيوت 451 مليار دولار، ما يعادل 3.7 ضعف صادراتها، ويعود ذلك لانخفاض إنتاج الطاقة على مدار العقود السابقة للدرجة التي اعتمد فيها الاتحاد الأوروبي على واردات الطاقة بنسبة 58 في المائة خلال 2020. ويعود اعتماده هذا إلى شبه انعدام القارة الأوروبية من موارد الطاقة الأحفورية، كالغاز الطبيعي الذي لا تمتلك منه سوى 1.7 في المائة من الاحتياطيات العالمية، نصفها في النرويج، وتمتلك فقط 0.8 في المائة من الاحتياطيات العالمية للنفط، ما يقرب من الثلثين منها أيضا في النرويج. وبمقارنة هذا الاحتياطي باحتياجات القارة فلن يسد احتياطي النفط احتياج القارة لأكثر من ثلاثة أعوام، والغاز ستة أعوام، لذا لم يعد أمام أوروبا إلا اللجوء إلى أشكال الطاقات الأخرى المتجددة، وبما أنها لا تغطي سوى 22 في المائة من إجمالي الطاقة التي تحتاج إليها، كان لزاما عليها الاستيراد من الخارج لتعويض هذا النقص.
المعادن الأساسية
تأتي المعادن أيضا ضمن السلع الأكثر استيرادا، حيث استورد الاتحاد الأوروبي خلال 2021، ما يعادل 142 مليار دولار من المعادن، تم استيراد أكثر من نصفها من قبل ألمانيا وإيطاليا وهولندا مجتمعين. وتعود أهمية المعادن بالنسبة لأوروبا، في ارتباطها بالصناعة والتكنولوجيا الحديثة، فنحو 50 نوعا من المعادن يدخل في صناعة الهاتف الذكي بمفرده، على سبيل المثال، إلى جانب اعتماد مصادر الطاقة المتجددة من توربينات رياح وألواح شمسية على هذه المعادن، إضافة إلى السيارات الكهربائية التي تحتاج إلى كم هائل من معدن الليثيوم وغيره من المعادن. ووفقا لرويترز، استيقظت أوروبا متأخرا على حقيقة أن لديها مشكلة معادن، نتيجة لتفريغ الطاقة الإنتاجية للمنطقة، لذا بدأ الاتحاد الأوروبي في وضع استراتيجية للمعادن ترتكز على البحث وإعادة التدوير، والتعاون مع عدد من الدول الاستراتيجية كأستراليا وكندا على أساس كونهم موردين تقليديين، بالإضافة إلى أوكرانيا وغرب البلقان والنرويج وصربيا، وفقا لما نقلته “رويترز” عن المفوضية الأوروبية. ومن جهة أخرى سيدفع الاتحاد بالاستثمارات لتكوين شراكات استراتيجية مع الدول النامية الغنية بالموارد في إفريقيا.
الخاتمة
ناقشنا في هذا التقرير الميزان التجاري للاتحاد الأوروبي من باب الفضول لمعرفة كيف تعيش القارة الأوروبية وعلى ماذا تعتمد في ثروتها، وتحدثنا عن ميزان المدفوعات، الوعاء الأشمل للميزان التجاري، وعن عوامل القوة والضعف فيه، وأهم السلع الرئيسة في وارداته وصادراته مع الدول خارج الاتحاد، سواء الأوروبية منها أو غير الأوروبية، والعوامل التي قد تؤثر فيه مستقبلا.