تضخم يتفجَّر ونمو يتراجع:
التحدّي الأكبر لحكومة الرئيس الفرنسي في ولايته الثانية
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ليس الرئيس الوحيد الذي تعاني بلاده إرتفاعاً للأسعار، لأن أزمة التضخم وتراجع وفرة المواد الغذائية الآتية من أوكرانيا، ولا سيما الحبوب، وصلت إلى كل بلد. ويُدير كل بلد الأزمة على طريقته الخاصة، إلاّ أن ذلك يُشكل تحدياً صعباً لرئيس أُعيد إنتخابه، ويُواجه أيضاً عبء تراجع النمو والقدرة الشرائية للمواطن، حيث أصبح ينقص المستهلك الفرنسي نحو 490 يورو شهرياً، كمعدّل وسطي ليُكمل الشهر، بحسب إستطلاع CSA Research بطلب من Cofidis، وذلك بزيادة 23 يورو شهرياً على مدى سنة مقارنة بالعام 2021.
وبإنتظار معرفة مستوى الأسعار في شهر يونيو/ حزيران عن شهر مايو/أيار 2022، أكدت هيئة الإحصاءات الوطنية (المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الإقتصادية INSEE)، أن مستوى الأسعار سجل في شهر أبريل/ نيسان 2022 معدل 4.8 % الأعلى منذ العام 1985، مدعوماً بإرتفاع أسعار المواد الغذائية، والسلع الأساسية، وفي طليعتها المحروقات التي تُشكل وحدها زيادة قريبة من 27 %، والخدمات 3 %+، والمواد الغذائية عرفت زيادة في أبريل/ نيسان بنحو 4 % مقارنة بالشهر السابق.
وأمام تسارع وتيرة الإرتفاع، لم يشهد INSEE إرتفاعاً للأسعار في حزيران/ يونيو بمعدل 5.4 %، مقارنة بنية تضخم تخطت 7.5 % في منطقة اليورو ككل.
وبلغت معدّلات التضخم في فرنسا توالياً 4.5 % في آذار/ مارس 2022، ونسبة 3.6 % في شباط/ فبراير. من هنا ومع نسب كهذه، تبقى فرنسا، ورغم التحدّي الذي فرضه مستوى الأسعار وتراجع توافر السلع كما قبلاً، ضمن نطاق أوروبي معقول، مقارنة بجيرانها الأوروبيين مثل ألمانيا التي سجلت معدل تضخم عند 7.4 % في أبريل/ نيسان، وإسبانيا مع نسبة 8.4 % بعد نسبة 9.8 % عرفتها في آذار/ مارس.
فالعامل الأساسي في إرتفاع الأسعار فرنسياً، وعموماً أوروبياً، يبقى سعر المحروقات الذي عرفت زيادة قدرها 46 % منذ العام 2015، والمواد الغذائية في المرتبة الثالثة مع 13 % بعد التبغ الذي زاد سعره نحو 56 % والخدمات 9 % منذ العام 2015.
ثمة من يضع مسؤولية إرتفاع الأسعار على إعتماد اليورو عملة موحدة في فرنسا. لكن إذا عُدنا إلى الأرقام الاوروبية، نجد أن نسبة التضخم على مدى فترة عامي 2002، و2012، إستقرت عند 1.7 % وذلك على مدى 10 سنوات لا يُعتبر مرتفعاً وهو طبيعي. إنما اليوم فالغلاء يلف العالم على مختلف عملاته، والطلب على الإستهلاك يزداد، وعدد سكان البشرية كذلك، فضلاً عن الحواجز التي تقف في وجه الإمدادات كالحروب، ولا سيما الحروب في بلدان تُعتبر مصدراً للمواد الغذائية والحبوب مثل أوكرانيا.
السلطات الفرنسية كغيرها مضطرّة لمواجهة آفة التضخم. لكن ليس في إمكانها التحكّم بسعر الفائدة الأوروبي، وهو من مسؤولية البنك المركزي والذي سينظر بدوره بذلك مطلع الصيف المقبل (2022).
الفرنسيون معتادون أن يتأقلموا مع الظروف، حتى ولو إرتفعت الأسعار مثل السفر، والملابس والخدمات. فهناك نسبة 55 % من الفرنسيين ستصرف النظر عن بعض الخدمات والتسلية، ونسبة 45 % عن شراء الملابس، ونسبة 41 % عن السفر، وغير ذلك، حتى الخروج من الأزمة، كما قالت Cofidis، مؤسسة تمويل الأفراد والمشتريات.
هذا القانون المرتقب يحتاج إلى تمويل من خلال الموازنة. والتحدّي المالي عرف ضغوطاً غير مسبوقة خلال فترة الجائحة، حيث خصّصت الحكومة الفرنسية السابقة مليارات اليوروهات كدعم للقطاعات الإقتصادية والشركات والقطاعات الموظفة، مع فترة ضعف إقتصادي إتسمت بإنكماش غير مسبوق. علماً أن الأمور عادت إلى الأفضل على مراحل.
أما اليوم، فنسبة النمو الإقتصادي في فرنسا لم تسجل أي نسبة في الفصل الأول من العام 2022 (Zero %)، حسب INSEE نتيجة تراجع الإستهلاك كرد مباشر على إرتفاع الأسعار المخيف، والذي قد يستمر في الأشهر المقبلة، ويتطلّب مواكبة حكومية للمستهلك، لكن ذلك لم يمنع الدولة الفرنسية من التدخل لتوفير الظروف المواتية للمواطن، ومواكبته في شراء حاجاته وتخفيف الضغط عنه. لكن كل ذلك يحتاج إلى صرف موازنات، وتالياً إلى التمويل المقابل لسدّ المصاريف في ما بعد.
وفي وعوده الإنمائية، تحدث الرئيس ماكرون عن قانون يحمل إسم القدرة الشرائية، ويتم التحضير له، ويتعلق بدعم أسعار الغاز نتيجة الضغط على هذه السلع لتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، ويتعلق بربط رواتب المتقاعدين والمساعدات الإجتماعية بمستوى التضخم، وزيادة الدعم لهؤلاء لمواجهة إرتفاع الأسعار. ويتعلق القانون أيضاً، بدعم البنزين، وصرف شيكات غذائية للعائلات متدنية الدخل.
فنسبة النمو المعدومة في الفصل الأول، جاءت مخالفة لتوقعات INSEE نفسها، عندما تدفقت في السابق بنسبة 0.3 %، والبنك المركزي الفرنسي كان توقع للفصل الأول بنسبة نمو عند 0.25 %. وجاء النمو المعدوم في الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2022 بعد نمو بنسبة 0.8 % في الفصل الأخير من العام 2021.
وبما أن الإستهلاك عامل أساسي في النمو الفرنسي الإقتصادي، سيبقى الرهان عليه حتى تحقيق النمو. والنمو يُراهن على تراجع التضخم، وتراجع التضخم يُراهن على التطورات العالمية. وهكذا ستبقى الحلقة تدور والتطلع إلى الآتي بات يحتاج إلى نظارات بعيدة المدى وأعصاب قوية.