عام على تعطل دور المصارف…
هل يُمكن إستعادته من دون إتفاق لبنان مع صندوق النقد الدولي؟
بعد إنقضاء أكثر من عام على بدء الازمة السياسية والاقتصادية والمالية في لبنان، تُظهر الوقائع اليومية أن الثمن الذي دفعه الإقتصاد والمودعين والقطاع المصرفي كان باهظاً، وقد تجلى إنعداماً في الثقة، وتعطلاً في الدور الاساسي للقطاع المصرفي والمتمثل بتمويل الاقتصاد والقطاع الخاص.
أمام هذا الواقع الُمر وتفاقم الازمة السياسية في البلاد، ومع إقتراب إنتهاء المهلة التي أعطاها مصرف لبنان للمصارف لإعادة الرسملة وتحسين ملاءتها (التعميم 54) حتى شباط/ فبراير من العام الحالي، يبرز السؤال عن إمكانية عودة المصارف إلى المبادئ الاساسية في العمل المصرفي السليم، المتمثل في تمويل النشاط الإقتصادي في ظل إستمرار التخبط الحكومي وعدم التوصل إلى إتفاق مع صندوق النقد الدولي ومع الدائنين بعد إعلان لبنان عن تعثره في سداد ديونه في آذار/ مارس 2020، وعمّا إذا كان ممكناً فصل النشاط التجاري في المصارف (الذي يُعتبر ضرورياً وأساسياً لتحريك عجلة الإقتصاد) عن المحفظة السيادية التي تضم ديون الدولة السيئة.
تتعدد الزوايا التي ينطلق منها الخبراء للإجابة على هذه الاسئلة، لكنهم يُجمعون على نقطة أساسية لإعادة المصارف لممارسة دورها الطبيعي وهي قيام الدولة اللبنانية، بالتفاوض مع الدائنين وصندوق النقد الدولي وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة لتُضاف هذه الاجراءات إلى خطوات تقوم بها المصارف لفصل نشاطها التجاري عن محفظتها السيادية مما يتيح لها إعادة رسملة هذا الجزء ومعالجة النشاط التجاري بأسرع وقت عبر ترشيد الميزانيات، وإتاحة المجال أمام دخول مستثمرين جدد على أسس واضحة وميزانيات نظيفة وشفافة.
أربع خطوات للحل
ينطلق الخبير الإقتصادي الدكتور مروان قطب في الاجابة على هذه الأسئلة لمجلة «إتحاد المصارف العربية» من تحديد مشاكل المصارف فيختصرها قائلاً: إنها «الودائع والقروض المتعثّرة والتوقف عن رد السندات الحكومية، وتحمّل المصارف لخسائر الإقتصاد اللبناني»، ويُذكّر أنه «بعد إنتفاضة «17 تشرين» أقفلت المصارف لمدة 12 يوماً للحد من تهافت المودعين لسحب ودائعهم تجنباً للإفلاس، وبعد الفتح بدأت المصارف سياسة «كابيتال كونترول» واقعية وغير قانونية، وهذه السياسة لا تزال سارية إلى اليوم بهدف تجنب التعثر».
قطب: للدمج بين المصارف القوية والضعيفة لزيادة القدرة على مواجهة الاستحقاقات
يضيف قطب: «وجود الودائع في المصارف هدفه إستثمارها في القروض أو السندات أو الأوراق المالية لإنتاج عوائد تغطي الفوائد، وتُحدد الأرباح، لكن هذه الودائع ليست موجودة في أدراج المصرف بل تم إستعمالها، وبالتالي السحب دفعة واحدة سيؤدي إلى إفلاس المصارف»، لافتاً إلى «أن أول مشكلة يعانيها القطاع المصرفي في لبنان هو أن المصارف إستثمرت الودائع في أمرين أساسيين: الأول هو إقراض المودعين، والثاني هو إستثمار أموالها في السندات الحكومية أي تمويل الدين العام اللبناني، لكن يا للأسف الدولة اللبنانية هدرت هذه الأموال».
يرى قطب أن «الصورة اليوم على الشكل التالي: هناك ودائع رقمية لا تستطيع المصارف ردّها للمودعين، وهناك تهافت كبير من المواطنين على سحبها، والمصارف تعاني أيضا من توقف الإيداعات، ومنها الإيداعات التجارية بسبب التعامل التجاري بنظام الكاش»، لافتاً إلى أن «الحلول يجب أن تكون سريعة لتجنّب إنهيار المصارف، لكن المشكلة لدى المصارف هي كيفية إسترجاعها للأموال الموجودة في المنازل والمؤسسات، لأن ما يضمن الودائع هو الإحتياطي الإلزامي الموجود في مصرف لبنان».
ويعتبر قطب أن «المشاكل الأخرى هي القروض المتعثّرة ومبالغة المصارف في تمويل الدولة التي أعلنت في 20 آذار/ مارس 2020 عن التوقف عن سداد ديونها، ما شكّل صفعة للإقتصاد اللبناني، والمصارف اليوم تريد من الدولة إسترداد دينها للقيام بمعالجة أمورها لكي تتمكن من رد دينها للمودعين».
يضيف قطب: «المشكلة الأخرى هي حجم خسائر الإقتصاد اللبناني، والتي تقدّر بنحو 240 زلف مليار ليرة، ومن المفروض تغطيتها (بحسب الحكومة) من المصارف ومصرف لبنان المركزي، وطالما أن ودائع المصارف إختفت بالقروض المتعثرة وبعدم سداد الدولة لدينها، فهذا يعني أنها في الوقت الراهن لا تملك الرساميل المطلوبة، وهذه مشكلة أساسية لأنه في القطاع المصرفي الضامن الأول للودائع هو رأس المال».
في المقابل يقترح قطب عدداً من الحلول لإعادة الحياة إلى العمل المصرفي، وهي «الإنقاذ الخارجي، والإنقاذ الداخلي، والدمج وزيادة الرساميل، وترشيق القطاع المصرفي ورد الدين الحكومي إلى المصارف».
ويضيف قطب: «أول فكرة هي دعم الحكومة للقطاع المصرفي لإعادة نهوضه، وهذا الأمر يُمكن أن يتحقق إذا لم تكن أزمة المصارف هي أزمة دين عام، وذلك عبر تحويل جزء من الودائع إلى أسهم في المصارف، يُمكن للمودع بيعها لاحقاً أو تحويله إلى نقد Bail in، وهذا أمر لا مهرب من اللجوء إليه لرد نسبة من الودائع وتحويل جزء منها إلى أسهم في رأسمال المصارف، أو اللجوء إلى دمج المصارف وزيادة رساميلها وقد أصدر مصرف لبنان تعاميم في هذا الاطار وأعطى مهلة حتى شباط 2021».
ويشير قطب إلى أن «هناك مصارف ضعيفة نتيجة سياساتها المالية والائتمانية غير الرشيدة ودخولها في إستثمارات ذات مخاطر عالية، وهناك مصارف أقوى إعتمدت سياسة رشيدة ومخاطر ذات إستثمارات مدروسة، لذلك يجب أن يحصل دمج بين هذه المصارف القوية والضعيفة لزيادة القدرة على مواجهة الإستحقاقات والإلتزامات وتجاوز الأزمات والإنهيارات والدمج لمصلحة القطاع المصرفي».
ويختم قطب: «أما في ما يتعلق برد الدين العام، على الدولة اللبنانية حكماً الوفاء بالإلتزامات المترتبة عليها، لأن هذا أساس المشكلة، والقيام بهذه الخطوة سيُساهم في تسريع رد الودائع للمودعين وإعادة الثقة بالقطاع المصرفي».
المصارف لم تتوقف عن القيام بمهماتها
ينطلق الخبير الإقتصادي نسيب غبريل في تقديم رؤيته لإستعادة المصارف لدورها في تمويل الإقتصاد بالتوضيح لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أن «المصارف اللبنانية لم تتخل يوماً عن دورها في تمويل القطاع الخاص قبل حصول الازمة، إلى جانب دورها في تمويل الدولة وقد وصلت القروض المستخدمة إلى 66 مليار دولار تقريباً في السنوات الماضية».
غبريل: مصارف تعمل بضبابية في غياب الإصلاحات والمحادثات مع صندوق النقد
يضيف غبريل: «تمويل المصارف للقطاع الخاص والإقتصاد اللبناني لا علاقة له بديونها على الدولة اللبنانية، بل بإعادة الثقة بالقطاع المصرفي والإصلاحات المطلوبة من الدولة اللبنانية، وتنفيذ الحوكمة والإدارة الرشيدة وإعادة هيكلة في القطاع العام، وتشكيل الحكومة والعودة إلى مباحثات مع صندوق النقد الدولي والوصول معه إلى إتفاق تمويلي إصلاحي، وبدء ضخ السيولة مجدداً بالسوق اللبنانية، وتدفق الاموال وإعادة هيكلة القطاع المصرفي بعد صدور تعميم من مصرف لبنان في هذا الاطار»، معتبراً أن «هذه هي الخطوات التي تساعد على إعادة المصارف لدورها. علماً أن إجراءات الملاءة وزيادة السيولة التي طلبها مصرف لبنان من المصارف، كان من الأفضل أن تحصل ضمن إتفاق بين الدولة اللبنانية وصندوق النقد الدولي لزيادة الثقة لدى المستثمرين الجدد للدخول في رأسمال المصارف، والأهم هو الوصول إلى برنامج إصلاحي وتمويلي مع صندوق النقد الدولي ومن ضمن هذا البرنامج، إعادة جدولة الدين العام بعد قرار الحكومة التوقف عن سداد ديونها في آذار/ مارس العام 2020».
يُشدد غبريل أن «لبنان كان يُمكنه تجنب إعلان التعثر في آذار/ مارس 2020 أو على الأقل إعتماد ما يُسمى بالتعثر المنظم من خلال البدء بالمفاوضات فوراً مع حاملي سندات «اليورو بوند» المحليين والأجانب، وهذا كله لم يحصل إلى الآن»، لافتاً إلى أنه «مع تأخر الإصلاحات وعدم وجود سلطة تنفيذية وتأخير عودة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي فهذا سيُؤثر على النظرة المستقبلية للقطاع المصرفي الذي يُطبق تعاميم مصرف لبنان لجهة الملاءة والسيولة وإعادة الرسملة».
يضيف غبريل: «سنرى في آذار/ مارس المقبل، 3 فئات من المصارف، فئة أولى سيُمكنها الإلتزام بالمعايير والإستمرار في السوق اللبنانية، والفئة التي ستحاول الإلتزام وستفشل، وفئة ثالثة ستقرر الخروج من السوق اللبنانية، وفي هذه الحال، سيقوم مصرف لبنان بتملّك أسهم المصارف التي لن تتمكن من الإلتزام بهذه المعايير، ويُغيّر إداراتها، وسيقوم بإعادة هيكلتها والحفاظ على ودائع الناس ودمج هذه المصارف المتعثرة ويُعرِّضها للبيع».
ويختم غبريل: «إعادة هيكلة المصارف هو شرط لعودة العمل المصرفي إلى طبيعته، ففي لغة الأرقام، يظهر تراجع هائل في الودائع والتسليفات، ففي العام 2020 تراجعت الودائع 19 مليار دولار، وهذا التراجع بدأ منذ العام 2019 نتيجة أزمة الثقة، واليوم القطاع المصرفي يعمل بضبابية كاملة في ظل غياب الإصلاحات والمحادثات مع صندوق النقد الدولي أو نية جدية للوصول إلى إتفاق معه».
الكرة في ملعب الدولة اللبنانية
يتفق الخبير الإقتصادي الدكتور شادي كرم مع غبريل حول أن «الكرة لإستعادة القطاع المصرفي لصحته هو في ملعب الحكومة اللبنانية، ويقول لمجلة «إتحاد المصارف العربية» إن «هناك إمكانية للمصارف بإستعادة دورها في تمويل الإقتصاد اللبناني لكن بشروط محددة، هي قيام الدولة اللبنانية بواجباتها لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة منها، وإعادة ترتيب دفع ديونها بشكل منظم، وليس بالشكل الذي أعلنت فيه الإمتناع عن الدفع في آذار/ مارس 2020».
كرم: في الوضع السياسي الحالي لا يمكن للمصارف
أن تستعيد دورها مهما فعلت
ويوضح كرم أن «المصارف اللبنانية ليس من واجبها تمويل الدولة اللبنانية (لأنه يشكل خطراً على ميزانياتها) بل إستقطاب الودائع لإستثمارها في تنمية الإقتصاد مع الأخذ بالإعتبار المخاطر التي تواجهها حين تقوم بهذا النشاط»، معتبراً أن «الإجابة على السؤال هل يُمكن للمصارف إستعادة دورها هو نعم، يُمكنها ذلك إذا نفذت الحكومة المقبلة الإصلاحات التي تُعيد الثقة بالبلد وبالقطاع المصرفي، لأن العمل المصرفي مبني على الثقة والتقنيات ووجود رأسمال كاف لتأمين الملاءة، وإستقطاب سيولة كافية لإراحة الناس».
يضيف كرم: «المشكلة اليوم أنه ليس هناك ثقة بالقطاع المصرفي، وبالدولة اللبنانية، وكل الناس هدفها إستعادة ودائعها من المصارف لوضعها في البيوت، والمطلوب هو عودة شيء من الإستقرار للوضع السياسي في لبنان، وإعطاء المسؤولين مؤشرات (مع إفتراض النية الحسنة)، بغية تنفيذ الإصلاحات المطلوبة من لبنان من قبل صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي، (إقرار قانون كابيتال كونترول، وضبط الفوضى في سعر صرف الليرة مقابل الدولار وغيرها من الإجراءات الإصلاحية) وهذه الإصلاحات تحتاج إلى قوانين من مجلس النواب، وجدية في تنفيذها، عندها المودع سيستعيد ثقته بالقطاع المصرفي».
في المقابل يرى كرم أن «على المصارف أن تعتمد سياسة ثابتة في تعاملها مع المودعين لجهة قدرتهم في الحصول على أموالهم بطريقة منظمة»، مشيراً إلى أن «إعادة هيكلة القطاع المصرفي هو تحد آخر أمام المصارف اللبنانية. والسؤال هو كيف سيتم، ومَن هي المصارف التي ستخرج من السوق؟ وماهو مصير أموال المودعين؟ هناك غموض مخيف لا يُمكن أن يخلق ثقة، والمطلوب هو شفافية تطمئن المودع لدفعه إلى زيادة أمواله في المصارف».
ويختم كرم: «دور المصارف هو تمويل الإقتصاد، وهذا لا يُمكن أن يحصل من دون إستعادة نسبة كافية من الملاءة والسيولة، لإعادة دورها في تمويل القروض للقطاع الخاص، وفي الوضع السياسي الحالي، لا يُمكن للبنان إستعادة عافيته الإقتصادية، ولا يُمكن للمصارف أن تستعيد دورها مهما فعلت».
باسمة عطوي