مارتن وولف من لندن*
ما الذي يمكن أن نتعلمه من أنصار المدرسة النقدية عما حدث للأسعار بعد تفشي جائحة كورونا؟ ماذا يمكن أن نتعلم من الأخطاء التي ارتكبت في السبعينيات؟ الغرض من طرح هذين السؤالين هو إضفاء التواضع على المناقشات الحالية، خاصة التي تدور بين محافظي البنوك المركزية. إخفاقهم في التنبؤ بالقفزات الكبيرة في مستويات الأسعار، أو منعها، في الأعوام الأخيرة أمر جليل. إذن، لم حدث ذلك؟ وما الذي قد يلمح إليه التاريخ عن الأخطاء التي لم تأت بعد؟
يمكن القول إنه لا يوجد ما نتعلم منه. قد يقال إن جائحة كورونا كانت حدثا فريدا استجاب له صانعو السياسات بأكثر السبل الممكنة منطقية. وبالمثل، فإن السبعينيات ماض قديم. لن يرتكب صانعو سياسات عصرنا خطأ ترك التضخم يرتفع مرة أخرى، وكذلك خطأ تضمين توقعات التضخم المرتفع الدائم. أود لو أصدق هذه الفرضيات. لكني لا أصدقها.
لنبدأ بالنقود. كانت هناك عقبتان أمام أخذ المعروض النقدي على محمل الجد. العقبة المهمة أكثر هي أن اعتباره هدفا، بل ومؤشرا، قوبل بالتجاهل من خبراء الاقتصاد الكلي “المحترمين” منذ فترة طويلة. العقبة الأقل أهمية تمثلت في الهيستيريا التي أصابت كثيرين بشأن التيسير الكمي الذي طبق بعد الأزمة المالية العالمية. هذا حجب إدراك ما كان مختلفا جدا هذه المرة.
وكما أشرت في مقال نشر قبل نحو عام، جادل تشارلز جودهارت الاقتصادي البريطاني، في 1975 بأن “أي انتظام إحصائي ملحوظ سينهار عادة بمجرد الضغط عليه لأغراض التحكم”. تبين أن هذه البصيرة صائبة فيما يخص المدرسة النقدية في الثمانينيات. لكني أشرت إلى وجود نتيجة بدهية: إذا لم تعد النقود مستهدفة، فقد تصبح مؤشرا مفيدا مرة أخرى.
في الآونة الأخيرة ألمح كلاوديو بوريو، من بنك التسويات الدولية، إلى كيف يمكن أن يصبح هذا هو حال النقود، مجددا. فهو يجادل بأن أهمية النقود تعتمد على إذا ما كان التضخم مرتفعا أم لا. بعبارة أخرى، وجود “فائض في النقود” في الميزانيات العمومية يؤثر في السلوك عندما يكون الناس حساسين للتضخم أكثر من تأثيره عندما لا يكونون كذلك.
في منشور حديث ممتاز على موقع “موني: إنسايد آند أوت”، يشرح كريس مارش، من “إكسانت داتا”، كيف خرجت النقود من تفكير الاقتصاديين النقديين ومحافظي البنوك المركزية. لكنه ذكر أن توسعا كبيرا في عرض النقود من المرجح أن يؤثر في الإنفاق بشكل كبير. ويزداد احتمال حدوث ذلك إذا كانت النقود الصادرة عن البنوك المركزية تمول حالات العجز المالي بفاعلية، مثلما حدث بشكل مذهل في 2020.
النقطة الفاصلة هي أن هذا يختلف اختلافا شاسعا عما حدث بعد 2008. كانت نتيجة الأزمة المالية تباطؤا حادا في إصدار النقود من خلال الإقراض المصرفي. النقود التي أصدرتها البنوك المركزية عن طريق شراء الأصول “التيسير الكمي” تعوض هذا التباطؤ الداخلي في النمو النقدي. قلل هذا بشكل كبير من حدة التباطؤ الاقتصادي بعد الأزمة.
في أوائل 2020، كان العكس هو ما حدث: نمو الائتمان الخاص وإصدار النقود من البنوك المركزية كانا قويين للغاية. متوسط النمو السنوي للعرض النقدي بالمعنى الواسع M2 الأمريكي من نهاية 2008 إلى نهاية 2019 بلغ 6 في المائة فقط. في العام المنتهي في شباط (فبراير) 2021، نما 27 في المائة. إذن ليس من المستغرب، مع وجود عمليات الدعم المالي أيضا، أن يرتفع الطلب المحلي الاسمي في الولايات المتحدة أكثر من 20 في المائة في العامين المنتهيين في الربع الثالث من 2022. وقد نتج عنه تعاف قوي. لكنه دعم أيضا قفزة في مستوى الأسعار: في العامين حتى كانون الأول (ديسمبر) 2022، ارتفع مؤشر أسعار المستهلك الأساسي في الولايات المتحدة 11.5 في المائة، أعلى كثيرا من 4 في المائة يسعى إليها مستهدف الاحتياطي الفيدرالي السنوي ضمنيا.
كان ذلك من الماضي. ماذا عن الحاضر؟ تشهد مقاييس العرض النقدي في الولايات المتحدة انخفاضا الآن. في كانون الأول (ديسمبر) 2022، مثلا، كان العرض النقدي بالمعنى الواسع أقل 2.5 في المائة من ذروته في آذار (مارس). تنقل بيانات مقاييس عرض النقود الأوسع المقدمة من مركز الاستقرار المالي الصورة ذاتها. هذا يشير إلى أن التضخم قد ينخفض بوتيرة أسرع من المتوقع. بل هو ممكن حتى إذا كان الهدف يسعى إلى تثبيت التضخم فقط بدلا من خفض مستوى الأسعار، فالسياسة متشددة جدا.
لكن يبدو أنه لا يزال هناك تراكم نقدي. علاوة على ذلك، يقدم جيسبر رانجفيد الاقتصادي الدنماركي، في مدونته لكانون الثاني (يناير) 2023، مقارنة واقعية مع السبعينيات. يشير، محقا، إلى أهمية المقارنات مع فترة أخرى عندما تفاعلت مجموعة من التوسعات المالية والنقدية القوية مع صدمات العرض لتوليد تضخم مرتفع. لكن السبعينيات شهدت ارتفاعين مفاجئين. لعبت أسعار الطاقة دورا في كليهما، وكذلك أسهمت السياسة النقدية التوسعية فيهما.
يضيف رانجفيد “بمجرد أن بدأ التضخم في الانخفاض في أوائل السبعينيات، خفض الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية. كان ذلك مبكرا جدا. وكان يعنى ضمنيا أن سعر الفائدة الحقيقي انخفض بسرعة كبيرة وأكثر من اللازم. في كانون الأول (ديسمبر) 2022، كان ما يسميه بنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا تضخم “السعر الثابت” يزيد عن 5 في المائة لشهر واحد على أساس بيانات معدلة سنويا، ولثلاثة أشهر على أساس بيانات معدلة سنويا، وعلى أساس سنوي. خلص رانجفيد إلى أن الأمر قد يتطلب وقتا أطول لإعادة التضخم إلى 2 في المائة من منتصف السبعينيات، ربما عامين آخرين. لكن هناك خطرا ليس فقط من التخفيف في وقت مبكر جدا، بل أيضا من التخفيف أكثر مما ينبغي في ظل احتمال التعرض لضغوط سياسية شرسة، ومن ثم إحداث زيادة مفاجئة أخرى.
النقطة المهمة هي أن جني التضخم خرج الآن من المصباح. أتفق مع رانجفيد على أن تشديد السياسة النقدية كان ينبغي في وقت أبكر. أتفق أيضا مع مارش على أن البنوك المركزية ما كان عليها تجاهل النقود، كما جادل ميرفين كينج أيضا. ربما هناك حجة مقنعة للانتظار ومعرفة ما يحدث قبل فرض مزيد من التشديد، على الأقل في الولايات المتحدة، خاصة إذا ركزنا على البيانات النقدية. لكن قد يثبت التضخم أيضا أنه أكثر ثباتا في الاتجاه الهبوطي مما كان مأمولا. مهما حدث، لا تكرروا ما حدث في السبعينيات، خفض التضخم ثم إبقائه منخفضا.