مليارا شخص في العالم لا يملكون حسابات و18 % في المنطقة العربية يتعاملون مع المصارف

Download

مليارا شخص في العالم لا يملكون حسابات و18 % في المنطقة العربية يتعاملون مع المصارف

الدراسات والابحاث والتقارير
العدد 419

– مخايل: «الشمول المالي» جزء من منظومة عالمية تسعى لإمتلاك القدرة على ضبط الحسابات المصرفية
واكيم: «الشمول المالي» يمكِّن الدول من تحديد قدرات الفرد الاستهلاكية وأوجه القصور التي يعانيها

يبدو مصطلح «الشمول المالي» تعبيراً جديداً وغريباً على الكثير من الناس العاديين ليس فقط من الفقراء، بل أيضاً من متوسطي الدخل في لبنان والمنطقة العربية وخاصة بلدان «الربيع العربي»، بسبب غياب التطور الإقتصادي والاجتماعي الذي يجعل من «الشمول» المالي أمراً بديهياً، والذي يمكن تعريفه علمياً بأنه «توافر القدرة لدى الأفراد ومؤسسات الأعمال على الحصول على الخدمات المالية وإستخدامها بفعالية، بأسعار معقولة وبطريقة مسؤولة»، وهذا يعني عملياً إشراك الناس في القطاع المالي الرسمي وتحسين معيشتهم، والإسهام في سلامة الأنظمة المالية ذاتها، ما يساهم في تمكين المجتمع ككل وتعزيز الإستقلال المالي للأفراد، بالإضافة إلى دعم القطاع المصرفي.
كل هذه الأبعاد الايجابية للشمول المالي، دفعت الحكومات والجهات المانحة والمعنيين في صناعة الخدمات المالية في العالم وفي المنطقة العربية، إلى إطلاق «ورشة عمل» لكي يضم «الشمول المالي» أصحاب الدخول المنخفضة، بهدف الإبتعاد عن أعمال التطرف من أجل المال من جهة، وخلق وظائف جديدة وتقليص البطالة والحد من الفقر من جهة أخرى، ما من شأنه أن يساهم في تعزيز النمو الاقتصادي.
بلغة الأرقام أظهرت دراسات عدة وضعت عام 2014، أن هناك نحو 50 في المئة من البالغين أو نحو ملياري شخص في العالم لا يملكون حسابات مصرفية، معظمهم يعيش في البلدان المتطورة في جنوب آسيا وفي بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما لفتت بحوث البنك الدولي الخاصة بالمؤشر العالمي لتعميم الخدمات المالية، أن حوالي 38 في المئة من إجمالي السكان البالغين على مستوى العالم، لا يتمتعون بالقدرة على الحصول على الخدمات المالية الرسمية، ولا يحصل نصف البالغين في أنحاء العالم، أو نحو 2.5 مليار نسمة، على خدمات مالية رسمية، و75 في المئة من الفقراء لا يتعاملون مع البنوك بسبب إرتفاع التكاليف، وبُعد المسافات، والمتطلبات المرهقة في غالب الأحيان لفتح حساب مالي. ولا يدخر سوى نحو 25 في المئة من البالغين في العالم الذين يكسبون أقل من دولارين للفرد في اليوم أموالهم في مؤسسات مالية رسمية، كما أن المنطقة العربية لا تزال دون المستوى المطلوب على صعيد «الشمول المالي» على المستوى العالمي، حيث إن نسبة 18 في المئة فقط من السكان في المنطقة العربية، لديها حساب مع مؤسسة مالية مقارنة بـ43 في المئة بالنسبة إلى البلدان النامية ككل، ومقابل 24 في المئة في دول أفريقيا جنوب الصحراء، كما أن 8 في المئة فقط من إجمالي القروض المصرفية تذهب للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتي تعتبر محرك نمو القطاع الخاص وخلق فرص عمل، وبحسب دراسة وضعتها مؤسسة التمويل، فقد بلغ عدد مؤسسات المشاريع الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر في المنطقة العربية ما بين 19 مليوناً إلى 23 مليون مؤسسة تعمل في القطاعين العام والخاص.

مخايل: تحقيق الشمول المالي أمر صعب

كل ما سبق يدعو للبحث عن تعريف علمي ومبسط لـ «الشمول المالي»، وأهدافه وإمكانية تطبيقه في المنطقة العربية وآليات هذا التطبيق، خصوصاً في ظل تنوع الرؤى حول مفهومه وطرق تحويله إلى «سلوك يومي»، إذ يعرف مدير الأبحاث في بنك لبنان والمهجر مروان مخايل، الشمول المالي بأنه «إمتلاك كل شرائح المجتمع حسابات مصرفية وهذا أمر أساسي في كل الدول المتقدمة، لكن في الدول النامية مثل لبنان والمنطقة العربية، يصبح تحقيق الشمول المالي أمراً صعباً، لأن المجتمع ليس معتاداً على هذا النمط، فهناك أناس كثر لا يزالون يفضلون التعامل بـ»الكاش»، ناهيك عن أن هناك أناساً يتعاطون بالأمور غير الشرعية، علماً أن الهدف الاساسي «للشمول المالي» هو تجفيف منابع الإرهاب، وتجارة المخدرات وتبييض الأموال، ولهذا يأتي التشديد على أن كل المعاملات المالية خارج الإطار المصرفي تدور حولها علامات إستفهام. ومن هنا جاء التركيز على نظام «إعرف عميلك» لمعرفة نشاط العملاء وإيراداتهم، لمكافحة تبييض الأموال وإدخالها في النظام المصرفي. وهذا التشديد حصل في المصارف اللبنانية بعد تطبيق قانون الفاتكا، علماً أن هذا القانون لا علاقة له مباشرة بالأمور غير الشرعية مثل تمويل الإرهاب والمخدرات، بل له علاقة مباشرة بالتهرب الضريبي، خاصة أن تعريف التهرب الضريبي مختلف عليه بين الدول، فسويسرا كانت تعتبر أن التهرب الضريبي هو شأن خاص بين العميل ودولته، بينما مع صدور الفاتكا باتت كل الدول ملزمة بتبادل المعلومات في ما بينها، منعاً للتهرّب الضريبي، وهذا يعطي مفهوم «إعرف عميلك» معنى ومنحى إضافياً.
ويضيف: «بمعنى آخر الشمول المالي هو جزء من منظومة عالمية، تسعى إلى إمتلاك القدرة على ضبط كل الحسابات المصرفية لكل المواطنين إما لمنع التهرب الضريبي أو لمنع الإرهاب، حيث يلعب نظام «إعرف عميلك» دوراً أساسياً في هذا الموضوع. ومؤخراً تم تطوير «إعرف عميل عميلك»، أي أن المصارف باتت مهتمة بمعرفة نشاط عملاء العملاء، والتأكد مما إذا كانوا يعملون بطريقة نظامية وهذا ما يؤثر على العملاء».

واكيم: الشمول المالي يؤمن مصادر أكثر لتمويل الاستهلاك

يُدخل «الشمول المالي «على حياة الناس العاديين مفاهيم وعادات جديدة لم يكونوا إعتادوا عليها من قبل، وفي هذا الإطار، يرى الدكتور جمال واكيم (خبير إقتصادي وأستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية)، أنه منذ عشرين عاماً لم يكن جميع المواطنين يتعاطون بالشأن المالي والمصرفي والاستثمارات بشكل كبير، بينما حالياً هناك نسبة كبيرة من المواطنين تملك بطاقات إئتمانية وحسابات مصرفية، وهذا يدخل في إطار دمج الفرد في النظام المالي للدول، ومن ضمنها فرض رقابة على أعماله بشكل أو بآخر، فبواسطة الحسابات المصرفية يمكن خلق نوع من الرقابة على المواطنين، وفي الوقت نفسه تتعزز مسألة الاستهلاك، لأن القدرة على الحصول على النقود والشراء عبر البطاقات الائتمانية وتنوع قدرات الشراء، تُعزِّز القدرة على الاستهلاك وتدخله على الخارطة المالية وتفتح مجالات أكبر للإستثمارات والتوظيفات».
يضيف: «الجوانب الايجابية للشمول المالي هو إتاحة أكثر من مصدر للمواطن لتمويل إستهلاكه، بصفة قروض ميسرة أو قروض عبر البطاقات الائتمانية، والقدرة على الدخول إلى أسواق مختلفة والوصول إلى بورصات عالمية، وهذا كله يتيح فرص تعزيز الإستثمار الفردي وتعزيز فرص الإستهلاك للفرد، بالمقابل أمام هذا الكم الهائل من مصادر التمويل والاستثمارت يمكن للمواطن أن يفقد القدرة على القيام بضوابط للإستهلاك من خلال إستسهال فرص التمويل، وفي الوقت نفسه يُتيح رقابة على الحسابات الشخصية بما يحدد حتى السلوك الفردي، بمعنى حين تتمكن الدول من تحديد قدرات الفرد الاستهلاكية، فهي تحدد قدراته وأوجه القصور التي يعانيها واهتماماته، بالتالي فهي قادرة على عملية تطويع الفرد وهذا أمر مشروع في إطار البلد الواحد، ولكن حين تدخل دول أخرى على الخط وتحاول التأثير على سلوك المجتمعات بناء على نمط الاستهلاك فهذا يعني خرقاً للسيادة».
فوائد وأهداف

لا شك أن تطبيق «الشمول المالي» يتطلب تطوير البنية التحتية المالية، ووضع إطار تشريعي وواضح للمؤسسات المالية غير المصرفية، وتشجيع المنافسة الحقيقية في الأسواق المالية والمصرفية، والعمل على توزيع المنتجات والخدمات المالية المتخصصة، ودعم حصول المرأة على التمويل، وذلك بهدف مواجهة تحديات الإرهاب والفقر والبطالة، خصوصاً أن العديد من الدول العربية تمر اليوم بصعوبات كبيرة وموجعة وتواجه مشكلات عميقة كالبطالة والفقر والإقصاء المالي، كما أن «الشمول المالي» يؤدي إلى نمو اقتصادي وإستقرار اجتماعي من خلال تسهيل الحصول على تمويل، من قِبل الذين لا قدرة لهم على الحصول عليه بالوسائل العادية، وهذا من شأنه أن يحول جزءاً من الناس من عاطلين عن العمل إلى فئة العاملين، وفي هذا الإطار يقول مخايل: « يمكن «للشمول المالي»، تحسين الأوضاع الاقتصادية للناس بشكل غير مباشر، بمعنى أن كل شخص يمتلك حساباً مصرفياً يسهل حياته اليومية وينظمها، كما أنه يشجع على أن تكون للدولة إيرادات أعلى لأنها تلزم الشركات على الإفصاح عن الرواتب الحقيقية والإيرادات والنفقات والارباح والرواتب التي يتقاضاها موظفوها، وهذا ما يمكِّن الدولة من إستيفاء ضريبة الدخل، ففي لبنان مثلاً هناك شركات تصرح عن قسم من الرواتب وتبقي قسماً آخر مخفياً تهرباً من مستحقات الضمان والتعويضات، وبهذه الطريقة يمكن تحسين إيرادات الدولة وتعويض نهاية الخدمة للموظفين وهذا ما يشجع المنظومة الاقتصادية ككل وطريقة تنظيم الامور المالية والاقتصادية».
ويضيف: «لا شك أن محاربة الإرهاب هو أحد الاسباب التي دفعت إلى تعميم الشمول المالي، لكن التطبيق صعب، لأننا في البلاد النامية لا يمكن إجبار المواطنين على الدخول في منظومة الشمول المالي، يمكن إجبار الشركات على تحويل رواتب موظفيها إلى المصارف مقابل العمولة التي تحذفها المصارف، لكن كيف يمكن إجبار أصحاب المهن الحرة على فتح حساب مصرفي، ليس هناك قوانين لذلك، وبالتالي «فالشمول المالي» يحتاج إلى وقت لتطبيقه خصوصاً أن الرؤية ليست واضحة في هذا الإطار، ولا شك أن النتيجة الايجابية لذلك هي تجفيف منابع الإرهاب والأعمال غير الشرعية، غير أن كثرة عدد الذين يملكون حسابات مصرفية يمكن أن تكون سيفاً ذا حدين، لأنها تُفسح المجال أمام كثيرين أيضاً للعمل في مجال تبييض الأموال عبر تجزئتها إلى أكثر من حساب، ولذلك تطبيق التفاصيل في «الشمول المالي»، يحتاج إلى معالجات وقوانين وأسلوب للتحقق من شرعية الأموال، خصوصاً أن معظم المؤسسات في لبنان هي صغيرة وصغيرة جداً بالمفهوم الدولي، مما يزيد عليها التكاليف ويمكن أن تخرقها الأعمال غير الشرعية بسهولة «.
يوافق واكيم على كلام مخايل لجهة أن تطبيق «الشمول المالي» يحاصر بشكل كبير تمويل الإرهاب، ويقول: «حين يتم ضبط عملية نقل الأموال من مكان لآخر عن طريق ضبط التحويلات المصرفية، يمكن عندها معرفة مصدر هذه الأموال والمتلقي، وحين تطرح علامات إستفهام على المصدر والمتلقي فهذا يحدّد أوجه هذا الصرف ويحدد المصدر لأن جزءاً أساسياً من كل عملية إرهابية بحاجة إلى تمويل، وتأخير التمويل يساهم إلى حد كبير في تجفيف منابع الإرهاب».
الآلية والمصاريف

هناك ثلاث خطوات من أجل الوصول إلى الشمول المالي، أولها التوعية المالية وثانيها التمويل المايكرو، وثالثها حماية المستهلك أو العميل. والسؤال الذي يُطرح ما هي آلية تطبيق الشمول وهل تزيد التكاليف على المصارف؟ يجيب مخايل: «يزيد تطبيق «الشمول المالي» أعباء على المصارف، فكل عميل يفتح حساباً مصرفياً بغض النظر عن الأموال المودعة فهذا يكلف المصارف، لأن العميل الذي لديه إيداع بسيط يكلف المصرف نفس التكاليف للعميل صاحب الإيداع الكبير، ولكن بربحية متدنية للعميل الصغير، وبالتالي هناك تكاليف للإجراءات التي تتخذ تضاف إلى تكاليف نظام إعرف عميلك، وهذا ما زاد المصاريف على المصارف في كل العالم، لدرجة أن المصارف الصغيرة في لبنان لديها صعوبة في إيجاد مصارف مراسلة في الخارج، لأن حجم أعمالها ليس كبيراً، وهذا يعني بالنسبة للمصرف المراسل زيادة الاجراءات التي سيتخذها لمحاربة تبييض الأموال، مما يدفع هذه المصارف للتخلي عن العملاء الصغار لأن التكلفة أكبر من الاستفادة، ومن هنا تعمد المصارف الصغيرة في لبنان إلى المراسلة إلى الخارج عبر المصارف اللبنانية الكبيرة».
يضيف: «الآلية تتخللها صعوبات ولا يمكن تطبيقها بين ليلة وضحاها، ففي الدول الغربية والكبرى فإن حجم نشاطها الاقتصادي والمالي يدفعها لتطبيق «الشمول المالي» بشكل شبه كامل وتلقائي، نتيجة تطور الاقتصاد (ما عدا الأنشطة غير الشرعية)، أما الدول النامية فهناك جزء كبير لا يحب التعاطي مع المصارف بسبب غياب الثقافة المصرفية والمالية، كما أن هناك أموراً تؤثر مثل تطور الاسواق المالية والبورصة، أما في الدول النامية فغياب المدخول العالي للمواطنين يمنعهم من الادخار والثقافة المالية ويزيد من صعوبة الدخول في منظومة الشمول المالي».
المردود على المصارف

في المقابل يشرح واكيم مردود «الشمول المالي» على القطاع المصرفي، فيقول: «هناك الكثير من الناس خارج الخريطة المالية وليس لهم علاقة وثيقة بالعمليات المصرفية، وهذا يعني بالنسبة للمصارف أن هناك عدداً كبيراً من الزبائن المحتملين يمكن دمجهم بالقطاع المالي، ما يوسع أعمالها، وفي الوقت نفسه يترافق هذا بالنسبة للمصارف مع تخصيص حجم أكبر للتمويل والدعايات والقروض، فالقطاع المالي هو جزء من سوق رأسمالي واسع وهذا يوسع أعمال المصارف، لكن مخاطر الشمول المالي على الفرد هي في سهولة الحصول على التمويل على المشاريع الاستهلاكية، لأن ذلك قد يغرق الفرد في تسديد الفوائد العالية بسبب تراكم القروض غير المسددة مما يؤدي إلى كتلة مالية وهمية متضخمة.
باسمة عطوي