حذرت جمعية مصارف لبنان مرّات عدّة من عدم جواز المساس ب#أموال المودعين عموما وبالتوظيفات الالزامية لدى مصرف لبنان خصوصا. وقد وثّقت تحذيراتها عبر كُتب عدة توجهت من خلالها الى حاكم مصرف لبنان، منها في 1 نيسان 2021، كذلك في بيانها الصحافي بتاريخ 8 تموز 2021، وكتابها أخيراً الى مصرف لبنان بتاريخ 4 نيسان 2022، والذي أعادت فيه التشديد على عدم جواز المساس بالاحتياط الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من أموال المودعين، ما يؤكده البيان الصحافي للجمعية المنشور في موقعها الإلكتروني.
“تؤكد الجمعية مجدداً موقفها المعلن والمعروف بضرورة عدم المسّ تحت أية ظروف بالاحتياط الالزامي كونه يشكِّل جزءاً لا يتجزأ من ودائع الزبائن لدى المصارف كما سبق للجمعية ان أوضحته بكتابها لسعادة حاكم مصرف لبنان بتاريخ الأول من نيسان 2021. وتحمِّل الجمعية الدولة مسؤولية استنزاف ودائع المصارف لدى مصرف لبنان خلال السنوات الماضية … وتحمِّل الجمعية كذلك مصرف لبنان مسؤولية المسّ بالاحتياط الإلزامي والخضوع للضغوط التي تمارسها عليه السلطات السياسية خلافاً لمنطق وروحية قانون النقد والتسليف … كما تؤكد الجمعية أن تخفيض معدّل الاحتياط الإلزامي بالعملات يوجب على مصرف لبنان إعادة المبالغ المحررة للمودعين أصحاب الحق بها…”
وفي السياق نفسه، أعلنت وكالة التصنيف الدولية “موديز” في تقريرها أخيراً، تعليقاً على تدخلات مصرف لبنان في سوق القطع:
“إن القرار الأخير لمصرف لبنان ببيع الدولار الطازج على سعر منصة صيرفة، لن يحقق استقراراً طويل الأمد في سعر الصرف، ولن يغيِّر كثيراً في مستوى التضخم … إن تدخل مصرف لبنان في السوق بإمكانه أن ينجح بتخفيض سعر الصرف موقتاً، ولكن في ظل الشح الكبير بالعملات الأجنبية لا يمكن لهذا الأمر أن يكون مستداماً”.
هل ستُسأل المصارف عن ضياع ما تبقّى من ودائع؟
عند بدء الأزمة المالية كان احتياط مصرف لبنان (من أموال المودعين) يفوق 31 مليار دولار، وها هو اليوم يتدنى الى مستويات خطيرة. والنزف ما زال قائماً والفجوة المالية الى اتساع. السؤال الأهم: إذا استمررنا بهذا النمط كم سيتبقى للمودعين من أموال لدى مصرف لبنان في الأشهر القليلة المقبلة؟ وهل ستستمرّ محاولات تحميل المصارف مسؤولية ضياع ما تبقى من الودائع التي يمثل الاحتياط جزءا منها؟ وما هي مسؤولية الدولة ومصرف لبنان عن كل ذلك؟ هل أن تدخلات المصرف المركزي في سوق القطع كانت لها الفعالية التي تستأهل التضحية بأموال المودعين؟ علماً أن فعالية التدخلات (إن وُجِدت) لا يمكن أن تُبَرِّر استعمال أموال المودعين بأي شكل من الأشكال.
هذه الأسئلة تجيب عنها المعايير الدولية التي تقيس فعالية تدخلات المصارف المركزية:
منذ العام 1953 وضع الباحثون معايير دولية لتقييم فعالية تدخلات المصارف المركزية في أسواق القطع، وكان أولهم ميلتون فريدمان صاحب نظرية “المدرسة النقدية “، والحائز جائزة نوبل، إضافة إلى من تلاه حتى اليوم من باحثين من أصحاب النظريات المتعددة، والذين درسوا على مدى السنين تدخلات المصارف المركزية العالمية في أسواق القطع. هذه الأبحاث تتناول في بعض منها معيار “الربحية” (Profitability criterion)، معيار “مواجهة الرياح”(Leaning Against the Wind) ، معيار “سعر التوازن”
(the Equilibrium Reference Rate criterion)، المعيار “الهجين” (the Hybrid criterion of Mayer & Taguchi) وغيرها من المعايير التي لا تسمح المساحة المعطاة لهذا المقال بالدخول في تفاصيلها.
فكيف تطورت سياسة مصرف لبنان في التدخل بسوق القطع في العقود الثلاثة الماضية بحسب هذه المعايير والتقنيات؟
إن الدور الأساسي الذي اضطلع به مصرف لبنان في بداية التسعينات كان بلا شك إيقاف كرة الثلج من التدحرج في مكان ما وإعادتها الى حجمها الطبيعي. صحيح ان سعر الدولار الذي ارتفع من 3،74 ليرات لبنانية في 10/1/1983 الى 2755 ليرة في 12/8/1992 كانت له أسبابه، الا أن سعر 2755 ليرة كان مبالغاً فيه آنذاك، مع الإقرار بأنه لم يكن لدى أيِّ كان فكرة محددة عن سعر التوازن الفعلي للدولار يومذاك. كانت سياسة إيقاف تدحرج كرة الثلج صعبة جدا لكنها كانت الطريقة الأسلم لإعادة السوق الى العقلانية، وذلك يمكن تصنيفه ضمن المعيار الدولي المعروف بـ”سعر التوازن”، حيث يجهد فيها المصرف المركزي لتوجيه السوق نحو سعر يعتبره هو سعر توازنٍ للعملة الوطنية.
بعد الارتفاعات الهائلة للدولار على مدى عشر سنين، بين 1983 و1992، توقفت كرة الثلج عن التدحرج في العام 1993 ولم يعد الهاجس الأكبر لكل لبناني تقلبات سعر الدولار وتأثيراته على أسعار السلع، كما توقفت ظاهرة السوق الموازية. بعدما تم تثبيت سعر صرف الدولار في العام 1999 على ما يقارب 1500 ليرة، استمر مصرف لبنان باعتماد هذا السعر عشرين عاماً من 1999 حتى العام 2019. فهل بقي سعر 1500 ليرة صالحاً طوال هذه الفترة رغم تنامي عجز الخزينة وتراكم الدين العام بشكل متواصل وبخاصة بعدما بدأ ميزان المدفوعات بتسجيل العجز منذ العام 2011؟
إن من رابع المستحيلات أن يكون سعر التوازن قد بقي على حاله في وقت واجه الاقتصاد تحديات وصلت بمؤشراته إلى أرقام سلبية قياسية لم يعرفها في تسعينات القرن الماضي. في مواجهة الضغوط على سعر الصرف ورغم المتغيرات الاقتصادية، إنتقل مصرف لبنان الى ما يمكن تصنيفه في المعايير الدولية بما يُسمّى “مواجهة الرياح”.
هذا المعيار يعتمد على مواجهة أي تغيير في سعر الصرف صعوداً أو هبوطاً ومحاولة تثبيته ولو بعيداً عن سعر التوازن. من المتعارف عليه عالمياً أن هذا المعيار لا يمكن اعتماده إلا لفترات قصيرة ومحدودة. ويقتصر على مواجهة تقلبات في سعر الصرف سبّبتها أحداث آنية يُتَوَقع أن تزول آثارها بعد فترات وجيزة. إن استعمال معيار “مواجهة الرياح” خلال فترات طويلة يستهلك حكماً احتياط المصرف المركزي ويُضعِف إمكاناته في مواجهة المضاربين، وهذا ما كان على المصرف المركزي التنبُّه إلى خطورته. وفي جميع الأحوال يُجمع الباحثون الاقتصاديون على مدى السنين على أن دور المصارف المركزية هو تحديداً مواجهة التذبذبات الحادة (erratic moves) حول المنحى العام للعملة وليس محاولة تغيير المنحى العام )بحد ذاته (market trendوالذي يحدده الوضع الاقتصادي للبلاد.
من شروط نجاح معيار”مواجهة الرياح” الحفاظ على مستوى مرتفع من الاحتياط بالعملات الأجنبية والتزام المصرف المركزي سياسة تدخل واضحة في سوق القطع لثني أي مضاربٍ عن محاولة التلاعب بسعر الصرف مهما كَبُرَ حجمه وقَويَتْ قُدُراته. في الحالة اللبنانية لعب الإحتياط من العملات الاجنبية والذي وصل الى 82% من الكتلة النقدية خلال العام 2018 دور الرادع النفسي والتقني لبعض الوقت، لكن ذلك لم يُجنِّبه الحاجة الى التدخل بكميات كبيرة من هذه العملات في مراحل متعددة على مدى السنوات، مما استنزف الإحتياط بشكل كبير.
كان على مصرف لبنان أن يُدرِك استحالة الاستمرار في سياسة تثبيت سعر الصرف مع تراجع المؤشرات الاقتصادية على نحو دراماتيكي. هذا الخطأً في التقدير، كانت نتيجته تبديد أموال المودعين من دون بلوغ الغاية المنشودة. مع التشديد مرة اخرى على أن استخدام الودائع في تدخلات المصارف المركزية في أسواق القطع لا يجوز بأي شكل من الأشكال، بغضّ النظر عن فعالية هذه التدخلات من عدمها. وحتى لو سلّمنا جدلاً أن مصرف لبنان كان يعتبر أنه يستلف موقتاً أموال المودعين للتدخل فيها بأسواق القطع، فإنه بذلك ارتكب خطأ جسيما كونه كان يعلم باستحالة تسديد السلفة.
وفي مقارنة مع أزمة الثمانينات، كان استهلاك مقدِّرات المصرف المركزي بالعملة الصعبة آنذاك، سببه التدخلات في سوق القطع وتلبية حاجات الدولة من العملات وبسبب سياسة دعم المواد الاستهلاكية الاساسية. هذا ما عاد وتكرر من التسعينات وحتى اليوم بأشكال متعددة وبوتيرة متسارعة. الفارق بين الثمانينات واليوم هو أن مصرف لبنان كان يستعمل احتياطه الحر من العملات الأجنبية آنذاك فيما تم استعمال أموال المودعين هذه المرة، وهنا يكمن الخطأ المُضاعف. فلبنان سجل سابقة في استعمال أموال المودعين بالعملات الاجنبية لمواجهة وضع اقتصادي متردٍ. فهل تؤخذ تحذيرات جمعية مصارف لبنان على محمل الجد للحفاظ على ما تبقى من اموال وحقوق للمودعين، أم تصبح الحالة اللبنانية الشاذة مادة بحث جديدة تُدرَّس في الجامعات؟