في نهاية العام الماضي كانت النظرة متفائلة تجاه مسار التضخم من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الامريكي والادارة الامريكية حيث كان من المتوقع انحسار التضخم بدءا من منتصف العام الجاري, وبناء على هذا التوقع بدأت الاسواق المالية العالمية والمستثمرون يستعدون لان موجتي التضخم السابقة على الجائحة وكذلك المصاحبة لتفشيها قد وصلا لذروتهما بالفعل وان الأسوأ قد انتهى, لكن كثيرا ما تثبت تطورات الاوضاع المالية والاقتصادية في العالم أنه قد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن وأن الواقع قد يخالف كافة التوقعات, فمع عدم وجود أفق حتى الآن لنهاية منتظرة للحرب في اوكرانيا وما تلاها من قفزة حادة في اسعار الطاقة, وفي ظل عمليات الاغلاق الكبرى التي تشهدها الصين حاليا بسبب تفشي الجائحة بأسوأ معدل لها منذ ظهور فيروس كورونا, فضلا عن استمرار تعثر حركة السلع والبضائع عالميا, يبدو الارتفاع في معدل التضخم في مختلف انحاء العالم مرشحا لمزيد من الصعود وهو ما دفع العديد من البنوك المركزية للتأكيد على ان احتواء التضخم يعد هدفها الاساسي بعد وصوله الى مستويات غير مسبوقة منذ 4 عقود, وترغب هذه البنوك في التوجه نحو رفع الفائدة بهدف عدم تفويت فرصة اتخاذ تدابير مضادة مؤاتية لكبح ارتفاع الأسعار.
لكن رغم هذا التوجه من قبل البنوك المركزية تبدو الاوضاع فيما يتعلق بالتعامل مع ارتفاع التضخم أكثر تعقيدا من أن يحتويها رفع اسعار الفائدة يعد احتواء التضخم تحديا كبيرا والادوات التقليدية في السياسات النقدية مثل رفع سعر الفائدة ربما لم تعد كافية وحدها لاحتواء تضخم تحكمه العديد من العوامل المتشابكة والتي يخرج بعضها عن السيطرة مثل تبعات الحرب في اوكرانيا وهو ما قد يحول التضخم من حالة عابرة تواجه الاقتصاد العالمي إلى وضع مزمن قد يطول أمده و ينتج عنه استمرار زيادة اسعار السلع والخدمات وتأثيرات غير محدودة على حركة تدفق الاستثمارات ومعدلات نمو الاقتصاد العالمي. كما يرى الخبراء انه بعد سنوات طويلة من اتباع البنوك المركزي لسياسات التيسير المالي والتي صاحبها خفض لاسعار الفائدة فإن الاتجاه الآن لسياسة مالية متشددة ورفع الفائدة في توقيت غير مناسب قد يكون في حد ذاته تهديدا للنمو الاقتصادي العالمي الهش والذي بالكاد تعافى من تداعيات الجائحة.
وفي مارس الماضي أقر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفع معدلات الفائدة على الأموال الفيدرالية بربع نقطة مئوية، لتصبح 0.5 بالمائة لتكون هي المرة الأولى للزيادة منذ عام 2018 , مشيرا الى توقعه رفع الفائدة في وقت لاحق لمرتين أخريين, وأرجع الفيدرالي قرار رفع الفائدة إلى الزيادة المضطردة في معدلات التضخم، والتي غذتها بصورة أكبر الحرب الحالية في أوكرانيا، ووصلت بأسعار الوقود والسلع لمستويات قياسية. وتسارعت معدلات أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوى لها في 40 عاماً، بسبب صعود تكاليف البنزين، والمواد الغذائية، والإسكان، مع اتجاه التضخم للارتفاع بشكل أكبر بعد الغزو الروسي لأوكرانيا
ويأتي ذلك في وقت يتحول توقع رفع الفائدة الاوروبية من مجرد توقعات الى تلميحات ثم الى تصريحات فعلية اذ اشار روبرت هولزمان عضو مجلس البنك المركزي الأوروبي بأنه لا بد من رفع الفائدة مرتين خلال العام الجاري، لتعزيز قدرة البنك على مواجهة التضخم في حال تجاوز التوقعات.
وخلال الاسبوع الماضي, أعرب رئيس البنك المركزي الألماني يوأخيم ناجل عن قلقه حيال ارتفاع معدل التضخم في بلاده والمح الى عودة قريبة لرفع أسعار الفائدة مرة أخرى متوقعا إمكانية وصول متوسط معدل التضخم السنوي في 2022 إلى 6 بالمائة، وهو ما يعد مستوى مرتفع بشكل زائد عن الحد, خاصة إذا استمرت الحرب في أوكرانيا، إذ من الممكن حدوث ارتفاعات جديدة في أسعار الطاقة وحدوث تأثيرات زائدة عن الحد على الاقتصاد الحقيقي وهو ما يستدعي اجراءات عاجلة من البنوك مركزية محذرا من انه لا يجب لهذه المعدلات المرتفعة للتضخم أن تترسخ لتصبح مزمنة وبالتأكيد سيكون هذا مهمة واجبة لنظام اليورو خلال العام الحالي. ومن المتوقع ان يعقد مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي في يونيو المقبل اجتماعا لمناقشة السياسة النقدية في ظل الوضع الحالي للتضخم.
كما قالت لورانس بون كبيرة الخبراء الاقتصاديين في منظمة التعاون والتنمية إن الهجوم الروسي على أوكرانيا سيكلّف أوروبا “نقطة إلى نقطة ونصف” من النمو بحسب مدة الصراع، فيما قد يرتفع التضخم “نقطتين إلى نقطتين ونصف”
وأشارت إلى أن درجة عدم اليقين تبقى “عالية” فيما يتعلق بهذه التقديرات، لكنها شددت على ضرورة إجراء “تفكير متعمق حول المواضيع الأساسية بما فيها أمن الغذاء والطاقة و(الأمن) الرقمي فضلا عن تنظيم التبادلات التجارية واعتبرت أن الصراع يرفع توقعات أسعار الحبوب والأسمدة التي تُصدّرها روسيا وأوكرانيا، وأن ذلك قد لا يؤثر على المحاصيل لهذا العام فحسب، لكن أيضا (محاصيل) عام 2023.
وقالت بون إن “التضخم سيظل مرتفعا هذا العام لكنه قد يبدأ في التباطؤ عام 2023 اعتمادا على كيفية تطور الحرب”. واستجابة لذلك، توصي بوضع سياسات مالية هادفة لمساعدة الأسر والشركات على اجتياز الأزمة.
وبلغ التضخم في منطقة اليورو مستوى قياسيا بسبب الحرب في أوكرانيا التي وصعود أسعار الطاقة والمواد الغذائية في منطقة اليورو التي تضم 19 دولة تستخدم جميعها العملة الاوروبية الموحدة “اليورو”, وهو ما يعد أعلى ارتفاع منذ بدء المكتب الأوروبي للإحصاءات (يوروستات) بإعداد هذا المؤشر في عام 1997.
وبدءا من نوفمبر الماضي اتجه التضخم لتسجيل مستوى قياسي لا سابق له في تاريخ المنطقة شهرا بعد شهر، الأمر الذي دفع الحكومات إلى التدخل لحماية المستهلكين اذ قفزت كافة مؤشرات التضخم خاصة مجموعة السلع الغذائية التي زادت بنسبة 5 بالمائة مقابل 4,2 بالمائة في فبراير. أما السلع الصناعية، فقد ازداد ثمنها بنسبة 3,4 بالمائة مقابل 3,1 بالمائة في فبراير, وشهد الخدمات ارتفاعا في الأسعار بنسبة 2,7 بالمائة في مارس، مقابل 2,5 بالمائة في فبراير.
وكان صندوق النقد الدولي قد اصدر تقريرا خاصا حول تبعات الحرب في اوكرانيا على الاقتصاد العالمي, وحذر الصندوق من انه على المدى الأطول، قد تفضي الحرب إلى تبديل النظام الاقتصادي والجغرافي السياسي العالمي من أساسه إذا حدث تحول في تجارة الطاقة، وأُعيدت تهيئة سلاسل الإمداد، وتجزأت شبكات المدفوعات، وأعادت البلدان التفكير في حيازاتها من عملات الاحتياطي. أما زيادة حدة التوترات الجغرافية – السياسية فهي تهدد بمزيد من مخاطر التجزؤ الاقتصادي ولا سيما على مستوى التجارة والتكنولوجيا, واشار الى ان الخسائر التي تتكبدها أوكرانيا فادحة بالفعل. ومن شأن العقوبات غير المسبوقة على روسيا أن تضعف أنشطة الوساطة المالية والتجارة، مما سيفضي حتما إلى حدوث ركود عميق هناك, وانخفاض سعر صرف الروبل يذكي التضخم، ويفضي إلى مزيد من تراجع مستويات معيشة السكان, وتمثل الطاقة القناة الرئيسية لانتقال التداعيات في أوروبا حيث تشكل روسيا مصدرا أساسيا لوارداتها من الغاز الطبيعي. وقد يترتب على ذلك أيضا حدوث انقطاعات أوسع نطاقا في سلاسل الإمداد. وستسفر هذه الآثار عن ارتفاع التضخم وإبطاء التعافي من الجائحة. وسوف تشهد أوروبا الشرقية ارتفاعا في تكاليف التمويل وطفرة في تدفق اللاجئين، حيث استوعبت معظم اللاجئين البالغ عددهم 3 ملايين نسمة الذين فروا من أوكرانيا مؤخرا، حسب بيانات الأمم المتحدة, وقد تواجه الحكومات الأوروبية كذلك ضغوطا على المالية العامة من زيادة الإنفاق على تأمين مصادر الطاقة وميزانيات الدفاع, وفيما يخص التأثيرات على بيئة الاستثمارات العالمية اعتبر الصندوق انه بينما تُعد الانكشافات الخارجية للأصول الروسية الآخذة في الهبوط محدودة بالمعايير العالمية، فإن الضغوط على الأسواق الصاعدة قد تزداد إذا سعى المستثمرون إلى البحث عن ملاذات أكثر أمانا. وبالمثل، تتسم الانكشافات المباشرة في معظم البنوك الأوروبية لروسيا بأنها محدودة ويمكن التعامل معها, ومن شأن السياسات الرامية إلى احتواء التضخم، كزيادة الدعم الحكومي، أن تفرض ضغوطا على حسابات المالية العامة الضعيفة بالفعل. وإضافة إلى ذلك، فإن تفاقم الأوضاع المالية قد يحفز تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج ويضيف إلى التأثيرات المعاكسة على النمو في البلدان ذات مستويات الدين المرتفعة والاحتياجات التمويلية الكبيرة.
وأدت التوترات وحالة عدم اليقين بشأن الإمدادات إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية في الأسواق العالمية خلال الأشهر الأخيرة, في وقت كان الاقتصاد العالمي قد بدأ يتعافى من التبعات القاسية لتفشي الجائحة, وجاءت الحرب في اوكرانيا لتمثل ضربة جديدة وقوية للاقتصاد العالمي حيث تسبب اضرارا واسعة للنمو وترفع أسعارالسلع الأولية خاصة الطاقة والغذاء وهو ما سيؤدي بالتالي الى ارتفاعات متوقعة في كافة الاسواق والخدمات.