هل نحن أمام أزمة مالية عالمية جديدة ؟
أعادت الإنهيارات التي حصلت في العاشر من مارس /آذار 2023، في مصرفين أميركيين هما «سيلكون فالي» و»سيغنتشر»، إلى الأذهان شبح الأزمة المالية التي وقعت في العام 2008، عندما إنهارت بعض أكبر البنوك في الولايات المتحدة، بسبب تراجع سوق العقارات فيها، مما إستدعى عمليات إنقاذ حكومية هائلة، وأدى إلى الركود الإقتصادي العالمي. فهل نحن أمام أزمة مالية عالمية جديدة؟
رغم أن الأزمة الحالية تظهر ككرة الثلج تكبر في كل يوم، فإن الخبراء يرون أنها ليست بالشكل الذي حدث في العام 2008، وذلك رغم إقرارهم بوجود مخاوف أكبر على قطاع البنوك الأوروبية والآسيوية، لكنهم يجزمون أن أزمة «سيلكون فالي» وخسائر البنوك الأميركية، خسائر دفترية أو ورقية ستنتهي بعد إستقرار متوقع للأمور مع إحتواء الأزمة.
ما يُمكن تسجيله بحسب هؤلاء الخبراء، أن التأثير سوف يكون أكبر على القطاع البنكي الأوروبي، لإنكشاف غالبية بنوكه على السوق الأميركية، ولأن معظم البنوك الأوروبية ليس لديها بنية تشريعية مثل الولايات المتحدة.
في المقابل، يُقلّل الخبراء من تداعيات إفلاس بعض البنوك، على الإقتصاد الأميركي في حد ذاته والإقتصاد العالمي عموماً، مشيرين إلى أن التدخل القوي من قبل الجهات المعنية الأميركية، لإستيعاب الإرتدادات التي قد تعيد للأذهان أزمة الرهن العقاري، التي ضربت الولايات المتحدة، ومن ورائها العالم في العام 2008، مطمئن نسبياً للأسواق.
ويُرجع الخبراء هبوط الأسهم الأوروبية بأكثر من 3 %، منذ إندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، إلى عوامل عدة أخرى، على غرار أزمة المسيِّرة الأميركية، وتراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية، بالإضافة إلى أزمة بنك «كريدي سويس» (السويسري) المتعثر، الذي يعاني مشاكل متعددة منذ مدة، أبرزها إنعدام الثقة والنتائج السيئة.
ويُشددون على أن حالات الإفلاس التي تتعرّض لها بعض البنوك الأميركية في الفترة الأخيرة هي فردية ومتوقعة، إذ إن «سيلكون فالي» يتعامل مع الشركات الناشئة والعاملة في قطاع التكنولوجيا، ومن الطبيعي أن تكون سندات هذه البنوك عالية المخاطر، لإرتباطها بشركات مخاطرة في حد ذاتها، فالجميع يعلم أن هذه الشركات ناشئة، وتعمل في قطاع التكنولوجيا، وبالتالي نسب المخاطرة ستكون عالية.
ويُثني الخبراء على إجراءات التطمين التي إتخذتها الولايات المتحدة، من خلال تعبئة ضمان فيدرالي بقيمة 175 مليار دولار، محفوظة في خزائن «سيليكون فالي» لحسابات المؤسسات الناشئة والمستثمرين، ساهمت في تهدئة الأسواق، كذلك الإجراء الذي إتخذ من قبل الحكومة البريطانية بإستحواذ بنك بريطاني على فرع البنك في بريطانيا، كان له الدور الأبرز في إستقرار الأسواق.
الإنتعاش متواضع
بلغة الأرقام، يواصل الإقتصاد العالمي إظهار مؤشرات إنتعاش متواضعة، بعد التباطؤ الحاد الذي أصاب الإقتصاد في أواخر العام 2022، وهذا ما يُعزّز السؤال عن إمكانية حصول أزمة مالية عالمية، نتيجة كل التطورات التي تحصل، لأن توقعات الإنتعاش أصبحت مهدّدة نتيجة إستمرار إرتفاع معدّلات التضخُّم، والضغوطات التي تواجهها المصارف الأميركية والأوروبية.
وأظهرت مسوحات الأعمال التجارية المنشورة يوم الجمعة 24 مارس/آذار 2023، تسجيل إرتفاعٍ في مستويات النشاط التجاري في قارة أوروبا، بحسب صحيفة Wall Street Journal الأميركية، لكن التوقعات الجيدة قد تنقلب رأساً على عقب، إذا قرّرت المصارف خفض معدلات الإقراض بشدة، وذلك إستجابة للتدقيق الأكثر صرامة من الجهات التنظيمية، وضرورة تقديم عائدات أعلى للمودعين. كما ستؤدي الزيادات السريعة والمتواصلة في أسعار المستهلكين إلى زيادات أكبر في معدلات الفائدة، التي تفرضها البنوك المركزية، بحسب الصحيفة الأميركية.
ويُجبر التضخُّم البنوك المركزية على الإستمرار في رفع معدلات الفائدة، من أجل تهدئة النشاط الإقتصادي، لكن معدّلات الفائدة الأعلى، تسبّب أوجاعاً متراكمة لدى بعض أجزاء القطاع المصرفي.
تقييم وتوقعات
الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي: لا يُمكن أن نتحدّث عن أزمة مصرفية عالمية لأن خطر السوق محدود
في التقييم الإقتصادي والمالي لما حصل، يشرح الخبير الإقتصادي الدكتور إيلي يشوعي لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أن «هناك أخطاراً قد تتعرّض لها المصارف العالمية سواء في الولايات المتحدة أو سويسرا أو غيرها من الدول. والخطر الأول الذي تواجهه كل مصارف العالم، هو خطر تنويع القروض، وهو أمر مهم جداً، لأنه لا يسمح بإقراض مدين واحد كمّاً هائلاً من الأموال، على غرار ما حصل في لبنان»، لافتاً إلى أن «خطر عدم تنويع القروض يُعرّض المصارف لخطر السيولة، وعندما تقع المصارف بخطر السيولة، تواجه خطراً ثالثاً هو الفوائد، بمعنى أن يكون مصرف معيّن قد إشترى سندات حكومية بفائدة ثابتة، ولديه إلتزامات بفوائد متحركة، وهذا ما حصل مع «سيليكون فالي» في الولايات المتحدة».
يضيف د. يشوعي: «إن هذا المصرف لم يكن لديه مشكلة عدم تنويع القروض، بل إن أزمته حصلت بسبب حمله لسندات عليها فوائد ثابتة (مردود ثابت)، وكان لديه إلتزامات عليها فوائد متحركة، وحين إشترى هذه السندات كانت الفوائد تقريباً 0 %، واليوم الفائدة في الولايات المتحدة ما بين 5 % و4 %»، موضحاً أن «هذا يعني أن هناك تآكلاً على قيمة السند، وهذا ما حصل مع «سيليكون فالي»، إذ تم بيع سندات بـ22 مليار دولار، وخسر فيها مليار ونص مليار دولار، وتسرّبت أخبار أن لديه أزمة سيولة، ما دفع المودعين إلى التوجُّه للحصول على ودائعهم وسحبها».
ويشير د. يشوعي إلى أن «سيليكون فالي» واجه خطر السوق المالية، لأن أسهمه تراجعت 66 %، وهي محمولة من مستثمرين أميركيين وأجانب، وجميعهم خسروا، وحصل تهافت عليه للحصول على الودائع، لذلك قرّرت الخزانة الأميركية إحالته إلى نوع من التصفية أو تعويمه لكن بصيغة جديدة»، لافتاً إلى أن «مصارف أخرى تأثرت لكن لا يُمكن أن نتحدّث عن أزمة مصرفية عالمية، لأنه لا يوجد خطر السوق. فخطر السوق وقع فقط على هذا المصرف، وليس على المصارف العالمية الأخرى».
ويشدِّد د. يشوعي على أنه «بعد الأزمة المالية في العام 2008، حصلت قوننة قاسية لأسواق المال، بمعنى أنه لم يعد هناك إمكانية لا للمبالغة ولا للإفراط بأي إستثمار مالي. وبما أن خطر السوق محدود بأسهم «سيليكون فالي»، وبالحاملين لهذه الأسهم، معناها أن ما حصل محدود ومضبوط، ولا يُشبه الأزمة المالية العالمية التي حصلت في العام 2008، وتُذكّرنا بأنها إندلعت بسبب خطر عدم سداد القروض (35 مليون دولار مُنحوا قروضاً بفوائد لا يستحقها المدين، لأن وضعه المادي لم يكن متيناً، ولم يتم درس الملفات كما يجب) وتحوّلت إلى أزمة سوق».
الأزمة مختلفة عن العام 2008
الخبير الإقتصادي وليد أبو سليمان أبو سليمان: أزمة المصارف الأميركية جرّاء إستثماراتها وخطوات «الفيدرالي الأميركي» برفع الفائدة
من جهته، يشرح الخبير الإقتصادي وليد أبو سليمان لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أن «أزمة العام 2008 المالية بدأت بإنكشاف المصارف على الرهن العقاري، لكن طبيعة الأزمة اليوم مختلفة، إذ إن أزمة المصارف في الولايات المتحدة راهناً هي جرّاء إستثماراتها، والخطوات التي يتخذها «الفيدرالي الأميركي» بموضوع رفع الفائدة»، لافتاً إلى أنه «في أوروبا يعاني مصرف «كريدي سويس» منذ فترة، حيث تحرّك المصرف المركزي السويسري من خلال دعمه بـ50 مليار فرنك، ومن ثم 100 مليار فرنك، وقد أتاح لـ «يو بي أس « بالإستحواذ عليه».
يضيف أبو سليمان: «كل هذه الأمور، لا أظن أنها شبيهة بأزمة العام 2008، ويُمكن أن تكون محدودة إلى حدّ ما، والعين على خطوة «الفدرالي الأميركي»، وعمّا إذا كان سيستمر بسياسة رفع الفوائد أم لا، لأن لها تداعيات سلبية على المصارف الصغيرة ومتوسطة الحجم في الولايات المتحدة».
ويختم أبو سليمان قائلاً: «لا ننسى أن «الإحتياطي الفدرالي» يُمكن أن يطبع دولارات في حال أراد التسديد للمودعين، وهذا الأمر بالتأكيد لا مشكلة فيه».
تأثيرات متعددة
الدكتور مروان قطب: إنهيار «سيليكون فالي» من تداعيات الأزمة التي نتجت عن الحرب الاوكرانية – الروسية
يؤكد الدكتور مروان قطب لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أن «أزمة «سيليكون فالي» هي من تداعيات الأزمة التي نتجت عن الحرب الاوكرانية – الروسية، لأن هذه الحرب أدت الى موجة تضخم عالمي، وإرتفاع في أسعار النفط، وأزمة في تأمين المواد الغذائية، وإضطر «الفدرالي الأميركي» إلى التدخل لإمتصاص هذا التضخم، وقد قام برفع الفوائد بصورة متتالية»، لافتاً إلى أنه «منذ قبل نحو عام، زادت الفوائد من حدود الـ 0 % إلى نحو 7.4 %، وكان الهدف من هذه الخطوة إمتصاص موجة التضخم القائمة، لكنها أدت إلى تداعيات كثيرة منها إنخفاض أسعار سندات الخزينة في الولايات المتحدة، وكانت المصارف تملك فائضاً في الودائع، ولم يكن يكفي إستثمارها بالقروض، بل كانت تشتري سندات حكومية لإقراض الدولة، وفي العام 2021، قام مصرف «سيليكون فالي» بشراء كمية كبيرة من سندات الخزينة من فائض الودائع المتوافرة لديه».
يضيف د. قطب: «ما حصل أن «الفدرالي الأميركي»، حين إتخذ القرار برفع الفائدة، فإن قيمة هذه السندات إنخفضت، وهذا ما تسبّب بخسائر لبعض المصارف، ومنها «سيليكون فالي»، وهذا ما دفعه الى بيع سندات خزينة للحدّ من خسائرة (في 8 آذار/مارس 2023، باع نحو 21 مليار دولار من سندات الخزينة التي يملكها)، وسعى إلى إقتراض نحو 15 ملياراً، وعندما إنتشرت هذه الأخبار التي تعكس أن المصرف يعاني أزمة سيولة، حصل تهافت من المودعين لسحب ودائعهم، وتم سحب نحو 42 مليار دولار من الودائع في يوم واحد، ووصل المصرف إلى مستوى لم يعد قادراً على الإستجابة لطلبات سحب الودائع الموجودة لديه».
ويوضح قطب أن «الفيدرالي الأميركي» لتجنّب إمتداد هذه الأزمة، أعلم المصارف بأنه سيقوم بخط تمويل لجميع المصارف لتعزيز السيولة، ويمكنهم الإستجابة لطلبات سحب الودائع لدى المودعين، مما يُخفف من موجة الطلبات لسحب الودائع، أي حل مشكلة السيولة القائمة حالياً من خلال فتح خط تمويل من قبل «الفيدرالي الأميركي»، وهذه من الخطوات الجيدة التي لجمت الأزمة»، شارحاً أن «الأزمة تسبّبت بخسائر كبيرة، ففي خلال 3 أيام فقط، خسرت الأسواق المالية بحدود 465 مليار دولار، وهذا كان نتيجة تراجع الأسهم في البورصات العالمية، وأيضاً على مستوى «سيليكون فالي»، كما أن الودائع تخضع راهناً إلى مؤسسة التأمين على الودائع لتغطيتها لحدود معينة، وهذا يعني أن 89 %من قيمة الودائع لـ «سيليكون فالي» غير مغطاة، مما يعني خسارة للقطاع المصرفي الأميركي، وخصوصاً أن «سيليكون فالي» هو مصرف يدعم شركات الـ start up والمشاريع المتوسطة والصغيرة، وهذا سيكون له إرتداد».
والسؤال هو هل ما يحصل في المصارف الأميركية، سيؤدي الى أزمة مشابهة لما حصل في العام 2008؟ يجيب قطب: «إن سرعة إتخاذ الإجراءات من قبل «الفيدرالي الأميركي»، وتعزيز الثقة والسيولة أدى إلى لجم الأزمة، والخشية من أن تحصل أزمات لدى مصارف أخرى، لكن طالما أن الأمور مضبوطة وأن «الفيدارالي الأميركي» مستمر بالخطوات التي إتخذها يعني أن هناك لجماً للأزمة، فإنه لا يُمكن ترجيح أن الأزمة الحالية ستؤدي حتماً إلى أزمة العام 2008»، مذكّرا أنها «أثّرت حينها على نحو 500 مصرف، وأدت إلى خسائر عالمية بحدود الـ 10 تريليونات دولار، وركود إقتصادي إمتد الى العام 2015، وإعتماد سياسات مالية من قبل حكومة الرئيس باراك أوباما بغية ضخ السيولة في الإقتصاد، وكانت كبيرة ولا يمكن مقارنتها بالأزمة الحالية».
ويختم قطب قائلاً: إن «الحرب الروسية – الأوكرانية، سيكون لها تداعيات مالية عالمية، ولكن لا أحد يعرف ما سيحمله المستقبل».