كريستين لاغارد: شطب ديون الدول الأوروبية المستحقَّة
للبنك المركزي الأوروبي أمرٌ غير وارد كما يُطالب بها الخبراء
مطلع شباط/ فبراير 2021، برزت للعلن دعوة يقف وراءها حوالي 100 خبير إقتصادي ومسؤول أوروبي لرئيسة المصرف المركزي في أوروبا كريستين لاغارد، تقول: إنه على هذا المصرف، وبكل بساطة شطب ديون الدول الأوروبية التي تعاني أزمة إقتصادية ومادية، نتيجة الجائحة العالمية، من أجل أن تستطيع تدعيم إعادة بناء طبقة إجتماعية – بيئية، ضربتها الجائحة، وغيَّرت من شكلها وعاداتها في العالم أجمع، وليس في أوروبا فقط.
هذه الدعوة لم ترق لرئيسة البنك الاوروبي، بل رأت فيها خرقاً للمعاهدات والأعراف التي تمَّ بناء الإتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو عليها، والتي تمنع بشكل واضح تمويل الدول مادياً. إلا أن دعوة الخبراء والمسؤولين ومن بينهم، أساتذة جامعات وخبراء ووزراء أوروبيون سابقون (وزير بلجيكي سابق بول مانيت)، والمفوَّض السابق الهنغاري (المجري) آندرو لازلو، وموقف كريستين لاغارد، أثار جدلاً ونقضاً من قبل الداعين إلى شطب الديون، معتبرين أن البنك الأوروبي قام بإجراءات إستثنائية لصالح الدول الأوروبية، لتعبر الأزمة الصحية العالمية وتداعياتها بأمان. ولماذا الآن يرفض شطب ديون هذه الدول إستثنائياً؟
رئيسة البنك المركزي الأوروبي برَّرت رفضها شطب الديون، بإعتبار أن ذلك يخرق المعاهدات الأوروبية من جهة، وبإعتبار أن إقتصادات أوروبا المتضرِّرة اليوم ستُحقِّق ناتجاً إجمالياً في العام 2021 لا يقل عن 6.5 %، قبل أن تعود العجلة الإقتصادية إلى سابق عهدها في منتصف العام 2022. وفي السياق عينه، دعت لاغارد ونصحت تلك الدول، بأن لا تُضيف في سياسة الموازنة والنقد فجأة، كي لا يُشكِّل ذلك صدمة للتعافي الإقتصادي البطيء في خروج القطاعات المتضرِّرة من حلقة تداعيات كورونا.
في هذه الدعوة، تكون رئيسة البنك المركزي الأوروبي، قد ردَّت الكرة إلى هؤلاء الخبراء والمسؤولين، ودافعت عن معاهدات أوروبية. وتقول كريستين لاغارد: «إن القاعدة الأوروبية التي تمنع تمويلاً مادياً للدول في الإتحاد، تشكل أحد أهم الأعمدة التي يتركَّز عليها بناء الإتحاد الاوروبي ومنطقة اليورو».
ووجَّهت لاغارد نقداً لاذعاً لمن دعاها إلى شطب ديون الدول الأوروبية، وقالت: «بدلاً من أن نُخصِّص كل طاقاتنا للمطالبة بشطب الديون الحكومية في دول الإتحاد، والمستحقَّة للبنك المركزي الأوروبي، علينا أن نُخصِّص هذه الطاقات للبحث والنقاش في كيفية إستخدام هذا الدين، وهذا سيكون أنفع للدول الأوروبية وللبنك الأوروبي. كما يجب أن نبحث في القطاعات التي تحتاج فعلاً إلى المزيد من المصاريف الحكومية، وفي أي قطاعات أخرى، يجب أن نستثمر فيها في المستقبل».
المطالبون بشطب ديون الدول الأوروبية، في الظروف التي تمر في العالم اليوم، ومن بينهم أيضاً 50 خبيراً وأكاديمياً فرنسياً، عقَّبوا على ردِّ رئيسة البنك المركزي الأوروبي، وخصوصاً الديون، وقالوا: «إذا أردنا تسديد الديون، يجب أن نجد المبالغ من المال من مصادر أخرى، إما من خلال الإستدانة لسداد الدين، عوضاً عن الإستدانة للإستثمار، وإما من خلال زيادة الضريبة على المداخيل وضرائب أخرى، وإما من خلال تخفيض المصاريف الحكومية».
هنا أيضاً، ردَّت كريستين لاغارد: «بأن كل دول منطقة اليورو، ستخرج من الأزمة الصحية الكونية (كورونا)، وعليها ديون متراكمة عند مستويات مرتفعة جداً، وستستطيع دول المنطقة، ومن دون أدنى شك، في نهاية المطاف، من تحسين وضعيتها، وستكون قادرة على تسديد ديونها». فالديون، تُضيف لاغارد: «تتم إدارتها في زمن طويل نسبياً، والإستثمارات المنفَّذة في قطاعات أساسية للمستقبل، ستكون كفيلة بتحقيق النمو الإقتصادي وبشكل أقوى».
كريستين لاغارد تعتبر: «أن مرحلة الإنتعاش الإقتصادي، ستجلب معها فرص عمل لمنطقة الإتحاد الأوروبي، وسنتَّجه نحو إقتصاد جديد أكثر رقمياً، وصديق للبيئة، يتماشى مع تقلُّبات المناخ، ويُحافظ على التنوُّع في النشاط التنموي».
لا شك في أن الحجج التي تستند إليها كريستين لاغارد في ردِّها على الخبراء المطالبين بشطب ديون دول الإتحاد الأوروبي، تنبع من قناعاتها بأن العام 2021 سيكون عاماً واعداً، رغم تأخُّر الإنتعاش، نتيجة بروز موجة ثانية من الوباء، على أمل أن لا تحلّ موجة ثالثة تقضي على كل الآمال. رئيسة البنك المركزي الأوروبي، لا تنفي بـ «أننا لسنا بمأمن من مخاطر غير معروفة، وبأننا قد لا نعود إلى مستويات إقتصاد ما قبل الجائحة، قبل منتصف العام 2021.» ولهذا السبب، تقول لاغارد: «إن البنك الأوروبي المركزي، سيُواصل دعمه للدول حتى ذلك التاريخ».
لاغارد تتوقع نمواً إقتصادياً لمنطقة اليورو في العام 2021، بحدود 4 %، بعد إنكماش بنسبة 6.5 % تحت الصفر في العام 2020، وإعتبرت أن ذلك مرهون بمدى نجاح سياسة التلقيح ضد الوباء، وبالإجراءات الإقتصادية المتَّبعة من قبل الحكومات في المنطقة، في تعاطيها مع الشروط الصحية التي فرضتها الجائحة.
موقف رئيسة البنك المركزي، من دعوة التخفيض لشطب ديون تعود إلى البنك، ومتوجِّبة على دول الإتحاد، هو موقف قانوني بحت، بإعتبار أن شطب الديون يُخالف الأعراف القانونية في المعاهدات الأوروبية. وهذا الموقف القانوني تدعمه ثلاث حجج إقتصادية، ونذكرها في هذه الدراسة على النحو التالي:
*إن موافقة البنك المركزي الأوروبي على شطب ديون سيادية للدول الأوروبية، يعني التخلي عن حجم ديون 3200 مليار يورو، من أصول البنك، تمَّ إقراضها لدول أوروبية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأموال الخاصة للبنك المركزي في الوقت الحاضر تُقدَّر بنحو 100 مليار يورو.
* إذا تخيلنا شطب ديون بحجم 3200 مليار، فهذا يعني أن البنك سيتواجه مع أموال خاصة بمجموع سلبي قدره 3100 مليار يورو. علماً أن قدرة البنك المركزي على إصدار النقد ونسبة الفائدة السلبية التي فرضتها على البنوك المودعة لديه، تُخوِّله بأن يكون على مستوى من مواجهة أي إستحقاق.
* الجانب الإقتصادي الثاني الذي يدعم رفض لاغارد شطب الديون، هو أن شطب الديون السيادية بكل بساطة، أشبه بطائرة مروحية نقدية، كما يصفها المختصُّون، حيث إن النقود التي يتم إقراضها للدول، لا تجد طريقاً للسداد في ما بعد، ولا سيما أن البنك المركزي قام بشراء سندات حكومية من الدول مقابل أحجام مالية ضخمة. وهنا فإن هذه السندات التي تمَّ بيعها للبنك المركزي، قام البنك بشطبها، بإعتبار أنه سدَّد ثمنها للدول، كي تتيسَّر مادياتها بعد تعثُّرها. وبالتالي، فإن شطب الديون غير مبرَّر إقتصادياً، فضلاً عن أنه يُخالف القانون.
* هناك خوف أيضاً في حال قام البنك المركزي بشطب ديون الدول الأوروبية، والتي تُقدَّر بنحو 30 % من حجم الديون، التي وافق عليها، من أن يؤدي شطب الديون في رفع التضخُّم إلى مستويات تفوق قدرة البنك في السيطرة عليها، حيث إن البنك المركزي، أحد أبرز مهماته حماية مستوى الأسعار عند مستوى 2 % كمعدَّل وسطي في دول المنطقة. علماً بأن المعدَّل حالياً منخفض جداً.
لكن الخوف، يكمن في إرتفاع مستوى الأسعار، نتيجة إرتفاع أسعار قطاعات أخرى، مثل العقارات والأصول المالية، لأن الديون التي إقترضتها الدول من البنك المركزي، توجَّهت في معظمها إلى السوق، ومساعدة الشركات والموظفين المتضرِّرين من كورونا. لكن لم تُستخدم في قطاع الإستهلاك نتيجة سياسة الإغلاق، بقدر ما تمَّ إستخدامها في الإستثمار في قطاعات قد تدفع بمستوى الأسعار إلى معدل يُصبح خارج سيطرة البنك المركزي.
أضف إلى ذلك، فإن عدم شطب الديون، سيُجبر الدول على إدارة الأموال بشكل مدروس ومنتج، بدلاً من أن تستفيد من شطبها، ويتسبَّب إستخدامها على أساس أنها لن تُسدَّد في فوضى إقتصادية، وبالتالي في فقاعة القطاعات التي إستفادت من الدعم. أضف إلى ذلك، أنه عندما ستتأكَّد فترة الإنتعاش، ستبرز حركة الإستهلاك بشكل أكبر، الأمر الذي تُعوِّل عليه الحكومات من أجل تحقيق معدلات نمو، تضمن للبلاد إقتصاداً أقوى ومتعاف.
تجدر الإشارة في الختام، إلى أن العام 2020 سيشهد ضخ أموال مركزية بحجم ألف مليار يورو في منطقة العملة الموحَّدة الأوروبية، أي ما يُعادل نسبة 10 % من الكتلة النقدية الإجمالية. وهذه الأموال يجب أن تُستثمر في قطاعات منتجة، ويجب تسديد ما هو ديون من ضمنها، وإلا التضخم النقدي سيُصبح عبئاً إضافياً على كاهل البنك المركزي الأوروبي.
مازن حمود
محلل مالي وإقتصادي/ باريس