لماذا يحتاج الاقتصاد العالمي إلى مزيد من المخاطرة؟
(البيان)-20/05/2024
أسفر انهيار وول ستريت في 1929 عن إصابة الميزانيات العمومية، وشهية المخاطرة لدى المستثمرين بندوب دائمة، وأفضت هذه الندوب، والتي كانت تتراوح ما بين مالية ونفسية، إلى ما أطلق عليه جون ماينارد كينز «مفارقة الادخار»، وهي مفارقة أن يأتي العمل الصالح الفردي (زيادة الادخار) بكارثة تطال الجميع (الركود الاقتصادي)، وبالفعل في ثلاثينيات القرن الماضي أتت هذه المفارقة بالكساد الكبير.
من الواضح أن هذه السلوكيات تبقى قائمة في عالمنا اليوم، أي بعد مضي ما يقرب من القرن على الكساد الكبير، إذ يتفشى العزوف عن المخاطرة في أوساط الموظفين والشركات والحكومات، ويحول الركون إلى الأمن الكثير من الفرص، فيما تواجه الاقتصادات «مفارقة المخاطرة»، إذ تتضخم المخاطر رغم سعينا الحثيث إلى تفاديها، وتحمل القواعد واللوائح التنظيمية الرامية إلى كبح الخطر في طياتها التأثير المتناقض ذاته.
لقد جاءت الصدمات الأخيرة، التي مني بها الاقتصاد العالمي في سلسلة متتابعة، بداية من الأزمة المالية وحتى جائحة كورونا، ثم صدمة تكلفة المعيشة والتوترات الجيوسياسية، وتتفاقم حالة الندوب على نحو لا يدع للميزانيات العمومية أو شهية المخاطرة سوى وقت ضئيل للتعافي.
وتفضي مثل هذه الندوب النفسية إلى سلوكيات دفاعية. وفي مواجهة عدم اليقين يكون رد الفعل الغريزي للشركات متمثلاً في إرجاء القرارات الاستثمارية، لاسيما الكبيرة منها التي تنطوي على الكثير من رأس المال والأشخاص، ويتقهقر بوضوح التدمير الخلّاق على طريقة جوزيف شومبيتر، والنتيجة أن غياب ديناميكية الأعمال هذا يعصف بالكثير من الاقتصادات.
ويُعد معدل خلق الوظائف وتدميرها أحد مقاييس هذا الأمر، أو ما يُعرف بمعدل إعادة التخصيص، وقد انخفض هذا المعدل منذ بداية القرن على نحو حاد لدى أغلبية دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وفي معظم القطاعات، وتراجع المعدل بنحو الربع بين الشركات الأمريكية والأوروبية، وبقرابة الثلث في الشركات بالمملكة المتحدة.
كما أبطأ هذا الركود نمو الإنتاجية، لذلك لم ترتفع الإنتاجية إلا بنحو نصف المعدلات المسجلة قبل الأزمة في ربوع مجموعة السبع. يُعزى ذلك في عدد من بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية جزئياً إلى تراجع معدل أعمال الشركات الناشئة، ما يشي بانخفاض الإبداع.
وإذا ما نظرنا إلى الولايات المتحدة فسنجد انخفاضاً بمعدل تأسيس الشركات منذ ثمانينيات القرن الماضي، وينذر تراجع عدد الشركات الجديدة الإبداعية بانحسار الإنتاجية. وفي الجهة المقابلة من دورة الحياة هذه تراجع عدد الشركات المفلسة، ما يعني انحساراً للتدمير.
وانخفض عدد مثل حالات الإفلاس هذه حتى وقت قريب، في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا دون المتوسطات التاريخية بصورة كبيرة، وأسفر هذا عن طول أمد بقاء الشركات منخفضة الإنتاجية، فتظل باقية دونما ازدهار، ونشبهها بالذيل. وفيما مضى كان بالإمكان قطع هذا الذيل، لنفسح المجال أمام الاستفادة من الموارد، بيد أن هذا الذي يواصل اهتزازه اليوم.
ويمتد سلوك العزوف عن المخاطرة هذا إلى الشركات المالية، فيحجم المستثمرون من المصارف والشركات غير المصرفية عن المخاطرة، وشكّل إقراض الشركات قبل جيل مضى ثلث أصول صناديق المعاشات التقاعدية البريطانية، لكنه يشغل ما يقل عن 2% اليوم، ولم يُسجَل صافي إقراض جديد من المصارف البريطانية إلى الشركات في المملكة المتحدة منذ 2008. ويُشار هنا إلى تسبب ذلك في حرمان الشركات سريعة النمو من التمويل، ما يقود بالتالي إلى تثبيط الديناميكية.
وقد ملأ المستثمرون غير التقليديين، أمثال مستثمري رأس المال المغامر والأسهم الخاصة وصناديق الثروة السيادية هذه الفجوة، لكن عدم اليقين حالياً يدفع إلى تقهقر الكثير منهم هم أيضاً، لذلك انحسر التمويل من أسواق رأس المال الخاص خلال العام الماضي بأكثر من 20%، فيما انخفض تمويل رأس المال الاستثماري والأسهم الخاصة للشركات في المملكة المتحدة بنسبة 30%.
وقد طال هذا السلوك الدفاعي الحكومات، حيث تعاني الحكومات عجزاً كبيراً من أجل حماية الاقتصادات من تداعيات الصدمات الأخيرة، ما أسفر عن ازدياد الدين العام في بلدان مجموعة السبع لأكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وتسارع الكثير من الحكومات حالياً إلى التراجع عن ذلك، ما يجعل السياسة المالية عبئاً على النمو في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا ومنطقة اليورو، ويزيد من عدم اليقين الذي يكتنف الاقتصاد الكلي المستقبلي، على غرار ما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي.
فهل بالإمكان فعل أي شيء؟ بعد تشخيصه لمرض مفارقة الادخار قبل عقد قدم كينز العلاج أيضاً، وتُعد الحكومة هي أفضل كيان بإمكانه تحمل الخطر طويل المدى، وبإمكانها أن تكون مستثمر رأس مال مخاطر صبوراً، فتضخ استثمارات في المواطن التي يخشاها الآخرون، وبفعلها هذا تسهم الحكومات في علاج الندوب التي تطال القطاع الخاص، وتحفز روحه الثائرة.
لقد أتت هذه الوصفة ثمارها في بريطانيا والمملكة المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي، لكن تكرارها اليوم تعرقله القواعد المالية التي تمنح الأولوية للديون في الكثير من الدول. وتأتي هذه الوصفة بنتيجة عكسية بتقييدها للاستثمار وعرقلتها النمو.
ومن أجل حل هذه المفارقة يجب الاستعاضة عن هذه الوصفة بقواعد تمنح الأولوية للنمو وتسعى إلى تعظيم صافي الثروة الوطنية، وليس تقليص إجمالي الدين. وينطبق المنطق ذاته على القواعد المشكلة للمخاطر في الأسواق الخاصة. سُنّت قواعد «بازل 3» للمصارف والقواعد المنظمة لعمل شركات التأمين «الملاءة 2» في حقبة شهدت ارتفاعاً شديداً للمخاطر، ونجحت في كبح جماحها، لكن مشكلة المخاطر اليوم لم تعد كبيرة.
وينطبق الأمر ذاته على القواعد التنظيمية ذات الصلة بالتنافسية وحوكمة المؤسسات. ورغم كونها حسنة النية لكنها أسفرت عن آثار سلبية على شهية مجالس الإدارة للمخاطرة في وقت تتسم فيه بالضعف الشديد. وتحتاج هذه القواعد في الوقت الراهن إلى إعادة تشكيلها، ليكون النمو هدفاً مساوياً أو أولياً لا ثانوياً، حتى تندمل الندوب النفسية.
يؤدي بنا عالمنا غير المستقر إلى حذر جمعي، ويفضي ذلك إلى أن الاقتصادات لم تعد تتحمل الكثير من المخاطرة، لكن سياسات السلامة حسنة النية تؤدي بنا في واقع الأمر إلى عالم أقل أماناً. ويتطلب استدعاء جوزيف شومبيتر من سباته عودة جذرية لكافة قواعدنا المستندة إلى المخاطرة، لكي نتجه إلى أفق يضع النمو أولوية له.