لا مهرب للعالم من تداعيات اقتصاد أمريكي ضل طريقه
(البيان)-21/08/2024
شهدت أسواق الأسهم العالمية أفضل أداء أسبوعي لها منذ نوفمبر، حيث تجاهل المستثمرون مخاوف الركود وتقلبات الين الياباني، التي سيطرت على المشهد في أوائل أغسطس. لكن المشكلة أنه لم يطرأ تغيير كبير للدفع نحو هذا التعافي، أو حتى للانخفاض الحاد في بداية الشهر.
وعموماً، وبغض النظر عن ضعف الأسواق خلال فصل الصيف، فإن هذا الوضع يبرز مدى عدم اليقين العميق بشأن الاقتصاد العالمي، في فترة ما بعد الجائحة، وكذلك بشأن التوقعات المستقبلية. لقد تحسن مستوى التضخم في الاقتصادات المتقدمة والناشئة، لكنه يظل مرتفعاً قليلاً، وتراجعت البطالة بصفة عامة.
لكن معدلات النمو تبقى متباينة، مع ماليات عامة منهكة حتى من قبل احتساب تكاليف التوترات الجيوسياسية وشيخوخة السكان. لذلك، لا تفضي هذه الظروف إلى استقرار تتحدد فيه أسعار فائدة حقيقية تعمل على استقرار التضخم في ظروف التوظيف الكامل.
وخلال العقدين الأولين من القرن، سعرت الأسواق المالية معدلات فائدة حقيقية واسمية طويلة المدى دائمة الانخفاض، وكان ذلك ضرورياً لتعويض الفائض الذي شهدته المدخرات الآسيوية والأزمة المالية العالمية، وانخفاض الإنتاجية ونمو السكان.
فضلاً عن التضخم المنخفض. وما زال الكثير من المحركات الأساسية للاقتصاد العالمي قائماً، لكن تواجهها مخاوف بشأن الصدمات المتكررة، وهشاشة سلاسل التوريد العالمية، والطلب الفائض الذي يحدث من آن لآخر، مما يسفر عن عالم أكثر تضخماً يشوبه قدر كبير من عدم اليقين.
وكشفت دراسة أجراها «مورجان ستانلي» أن الأسواق المالية تتوقع حالياً أن تكون هناك حاجة إلى أسعار فائدة أعلى طويلة الأجل كي تستقر الاقتصادات، لكن يعتقد قليلون باستمرار تقييم السوق هذا. والأكثر يقيناً هو الاستنتاج الثاني الذي توصلت إليه الدراسة.
والذي مفاده أن هناك إمكانية للعمل على تحسين تكاليف التمويل الحقيقية طويلة الأجل، من خلال السعي إلى تبني سياسات فعالة للاستقرار الاقتصادي. ويرسم الإبقاء على انخفاض التضخم واستقراره وتحسين عجز الحساب الجاري مساراً نحو نجاح اقتصادي نسبي.
وعلى الرغم من توصل «جولدمان ساكس» إلى هذه النتائج عن طريق مقارنة أسعار الفائدة الحقيقية طويلة الأجل النسبية للبلدان بالولايات المتحدة، لكن ليس من المبالغة افتراض أن ما يفيد الآخرين سيكون مهماً للولايات المتحدة أيضاً، وكذلك للاقتصاد العالمي.
وتؤدي السياسة الاقتصادية الأمريكية الإيجابية إلى خفض تكاليف الاقتراض العالمية الحقيقية، وتعمل على استدامة النمو الاقتصادي الأسرع وتحسن من حياة البشر. لذلك، فهناك صعوبة في المبالغة في تقدير أهمية الانتخابات الرئاسية الأمريكية للبلاد وللدول الأخرى.
وقد دأبت كامالا هاريس أخيراً على بيان رؤيتها الاقتصادية. وأكدت تأييدها الكامل لاستقلالية الاحتياطي الفيدرالي من أجل الوفاء بتفويضه المزدوج المتمثل في تحقيق الحد الأقصى للتوظيف واستقرار الأسعار. كما أعلنت طموحاً مرحباً به لتجاوز العوائق التي تقف في طريق بناء المنازل.
ومع ذلك، فإن السياسة الأخيرة هذه ليست كما تبدو، فالتعهد بضمان بناء 3 ملايين منزل «ميسوري التكلفة» للطبقة المتوسطة على مدى أربعة أعوام كان مخيباً للآمال. فقد شهدت الولايات المتحدة بناء 6 ملايين وحدة سكنية منذ عام 2020، وبإمكانها حالياً الانتهاء من تشييد 1.5 مليون منزل سنوياً.
وعلى غرار المرشحين الديمقراطيين بكل انتخابات رئاسية، ترغب هاريس في فرض ضرائب على فاحشي الثراء واستخدام المتحصلات في تخفيف العبء عن كاهل أسر الطبقة المتوسطة، خصوصاً ذوي الأطفال. لكن تحقق ذلك سيتوقف على ميزان القوى داخل الكونجرس.
الأكثر إثارة للقلق هو اختيارها التودد إلى الشعبوية الاقتصادية اليسارية. ويمثل حديثها الغامض عن السياسات التي ترقى إلى مراقبة الأسعار في محلات البقالة، وفرض ضوابط على الإيجارات، انتصاراً خطراً للأمل على الخبرات الطويلة التي أثبتت فشل مثل هذه السياسات. ومن الممكن فهم تصريحاتها باعتبارها معركة حاسمة ضد الممارسات الضارة بالتنافسية.
ومع ذلك، فإن اختيارها الإبقاء على الغموض يجب أن يكون مصدراً للقلق. مع ذلك، فإن مخاطر فوز كامالا هاريس بالرئاسة تتضاءل في أهميتها مقابل المخاطر التي تنطوي عليها إعادة انتخاب دونالد ترامب. فقد أوضح الرئيس السابق بجلاء رغبته في أن يكون مشاركاً في اتخاذ القرارات ذات الصلة بالسياسة النقدية، لأنه يرى أن هذه القرارات تعتمد على «الحدس» ويعتقد أن لديه من المقومات ما يمكنه من اتخاذ القرارات الصائبة.
ومع الوضع في الاعتبار اعتياد ترامب تفضيل الفائدة المنخفضة، حينما كان على رأس السلطة، فستكون السيطرة على التضخم من بين الأمور التي سيصوت عليها الناخبون هذا الخريف. علاوة على ذلك، تمتد شعبويته الاقتصادية إلى تبني مبادئ مرفوضة، مثل الإيمان برفع التعريفات الجمركية التي ستؤثر على المستهلكين الأمريكيين ومن شأنها رفع الأسعار على نحو أكبر.
وتعد مطالبته بفرض ما سماه: «تعريفات تتراوح بين 10% و20% على الدول الأجنبية التي دأبت على استغلالنا طوال أعوام» خطرة بالنسبة للولايات المتحدة والاقتصاد العالمي. وبالنظر إلى أن الجمهوريين أكثر ميلاً إلى التخفيضات الضريبية على حساب ضبط الإنفاق، فلا ينبغي أن يعتقد أحد بحدوث أي استقرار اقتصادي بالولايات المتحدة تحت إدارة ترامب، حتى وإن كان بمقدور الكونغرس السيطرة على حدسه.
لذلك، لا عجب أن تكون الأسواق المالية قلقة، حينما يكون الاختيار إما بين مرشحة تلقي باللوم بصورة غريزية في ارتفاع التضخم على فوائض الشركات واستغلالها داخل النظام السوقي، وبين مرشح آخر يثق في حدسه هو ويؤمن بنظريات بدلاً من الاستفادة من عقود من الخبرة.
إن ما يمكن أن تسفر عنه الانتخابات يندرج في إطار عدم يقين شديد، ليس فقط بمن سيفوز بالسباق وإنما أيضاً ما سيسعى الفائز إلى تطبيقه وما إذا كان سيتمتع بالسلطة التشريعية التي تمكنه من فعل ذلك. لذلك، من المتيقن أن يكون هناك مزيد من التقلبات خلال الأشهر المقبلة. وإذا كنت ترى أن كل هذا غير مطمئن بالمرة، فأنت محق تماماً.