التحول المالي.. تحدٍ جديد أمام الاقتصاد العالمي
(البيان)-01/11/2024
تعد الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي دائماً الوقت المناسب لتقييم الاقتصاد العالمي، وسياسات الدول الكبرى. ولم يكن اجتماع الأخير للصندوق في واشنطن استثناء، إلا أن ما أدهشني ليس القلق العام بشأن احتمال فوز ترامب، وهو أمر قد يكون متوقعاً، إنما توصيات صندوق النقد الدولي الرئيسية، التي بدت منفصلة عن الواقع. وقد حمل تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» عنوان «تحول السياسات وتزايد التهديدات»، ودعا إلى ثلاثة تحولات رئيسية:
الأول: هو تيسير السياسة النقدية، الذي أقر الصندوق أنها بدأت بالفعل.
الثاني: إجراء تصحيح مالي مستدام وموثوق على مدار سنوات عدة، لتلبية الحاجة الملحة لتحقيق الاستقرار في ديناميكيات الديون الحكومية وإعادة بناء هوامش أمان.
الثالث: هو الدعوة لإصلاحات هيكلية تعزز النمو الاقتصادي.
وبما أن الصندوق يدعو دوماً إلى إصلاحات هيكلية لتعزيز النمو من الأفضل هنا التركيز على توصيته بتيسير السياسة النقدية مع التشديد المالي، فهذا الاقتراح جديد، ومن المدهش أنه يمكن تلخيص تطور توصيات الصندوق النقدية والمالية في اجتماعاته المتتالية في الخريف والربيع، في أقل من كلمتين.
إن توصيات صندوق النقد تحاكي سياسات البنوك المركزية، وقد تكون وصفاً لما يحدث بدلاً من تقديم المشورة؛ أما نصائح الصندوق بشأن السياسة المالية فقد انتقلت من التوصية بالتحفيز خلال جائحة كورونا نحو دعوات أقوى للتشديد النقدي.
ولا يطلب صندوق النقد الدولي من البلدان المبالغة في زيادة الضرائب أو تقليص الإنفاق العام، فقد أوضح بيير أوليفييه غورينشا، كبير الاقتصاديين في الصندوق، أنه يجب تحقيق توازن بين خفض الطلب على المدى القصير، إذا اتخذت الدول إجراءات تقشفية صارمة، وبين خطر حدوث تعديلات فوضوية إذا لم تفعل شيئاً يذكر، وفقدت القدرة على الوصول إلى أسواق السندات. وقال غورينشا: «يتطلب النجاح تنفيذ تعديل مالي مستدام وموثوق يمتد لسنوات، طالما كان ذلك ضرورياً ودون تأخير».
ووفقاً لصندوق النقد الدولي فإن الفائدة من هذا الانتقال من تشديد السياسة النقدية إلى تشديد السياسة المالية تكمن في «دورة إيجابية متكررة»، حيث يبقى التضخم تحت السيطرة مع انخفاض أسعار الفائدة، ما يدعم النمو في الطلب، ويقلل تكاليف اقتراض الحكومات، ويمهد الطريق أمام تيسير مالي أعمق، واستنتج الصندوق أن «السياسة المالية الأكثر تشدداً تمهد الطريق لسياسة نقدية أكثر مرونة».
وليس هناك شك في أن تكاليف الفائدة آخذة في الارتفاع كنسبة من الإيرادات الحكومية، ما يشكل تحدياً متزايداً لوزارات المالية في جميع أنحاء العالم، بالتالي سلط الصندوق الضوء على مشكلة مهمة، ودعونا نرى ما إذا كان هذا التحول يحدث بالفعل على أرض الواقع، فعلى الصعيد النقدي هناك دلائل واضحة على أن التقدم المحرز في خفض التضخم سمح للبنوك المركزية بتخفيض أسعار الفائدة الاسمية.
وبغض النظر عن مدى قبولك لمفهوم أسعار الفائدة الحقيقية قصيرة الأجل، إلا أنها استمرت في الارتفاع في عام 2024 بعد فترة من الاستقرار، حيث جاءت مع انخفاض توقعات التضخم للسنة المقبلة؛ ويشير صندوق النقد الدولي إلى أنه من المتوقع أن تنخفض معدلات الفائدة الحقيقية بالتوازي مع معدلات الفائدة الاسمية مع استقرار توقعات التضخم.
أما بالنسبة للسياسة المالية فيبدو أن الأمر مختلف؛ فمن الصواب أن يقدم الصندوق توصياته، إلا أنني أخشى القول إنه لا يوجد تقريباً أي مؤشر على أن وزارات المالية حول العالم استمعت لهذه التوصيات، كما لا يبدو أن الصندوق نفسه مقتنع بذلك بدرجة كبيرة، حيث إن كل دولة تقريباً من دول مجموعة السبع لديها عجز هيكلي أعلى متوقع في ميزانيتها لعام 2029 مقارنة بعام 2019 قبل الجائحة، مع تيسير كبير في فرنسا وإيطاليا.
صحيح أن العجز الهيكلي في الولايات المتحدة سيكون أقل بقليل في عام 2029 مقارنة بعام 2019، لكنه يظل كبيراً في كلا العامين، ويستند التوقع الخاص بعام 2029 إلى افتراض صندوق النقد الدولي أن الدول ستتبع نصيحته إلى حد ما؛ رغم ذلك لا يوجد قدر كبير من التشديد المالي في توقعات الفترة من 2024 إلى 2029، والأمر الأكثر دلالة هو أن التوقعات المالية للعجز الهيكلي تبدو أسوأ في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي لشهر أكتوبر مقارنة بالإصدارات السابقة. وببساطة التحول المالي الذي يسعى إليه الصندوق لا يحدث.
إن التحول المالي لا يتحقق كما يأمل صندوق النقد الدولي، ويشير ذلك إلى أن تكاليف الاقتراض الحكومي من المحتمل أن تظل مرتفعة، وأن السياسة النقدية ربما لن تكون قادرة أو يتعين أن تتسم بالتيسير بالقدر الذي تتوقعه الأسواق المالية، إلا إذا كانت الحاجة إلى مزيد من التحفيز أكبر مما يتصوره الصندوق، وفي كل الأحوال من المرجح أن يصبح الصندوق أكثر حدة في رسائله المستقبلية بشأن السياسات المالية، في ظل استمرار تجاهل الدول لنصائحه.