«الجمهورية التكنولوجية».. نشوء النظام العالمي الجديد للذكاء الاصطناعي
(البيان)-24/02/2025
في عام 1996، ألهب الشاعر الأمريكي جون بيري بارلو مخيلة جيل كامل بإعلانه سيادة الإنترنت الوليدة آنذاك في «إعلان استقلال الفضاء السيبراني».
فللمرة الأولى في تاريخ البشرية، توفرت مساحة جديدة افتراضية تسمح بتكوين مجتمعات عالمية حرة، وتزدهر فيها الأفكار الجديدة، بعيداً عن قيود السلطات التقليدية.
لقد تولدت التصورات المثالية التي تفتقت عن ذهن بارلو بشأن حضارة لا تنتمي إلى هذا العالم، من مخلفات الثقافة المضادة للهيبيز وسلطة الزهور التي ازدهرت في ستينيات القرن الماضي في سان فرانسيسكو.
وتسللت طريقة التفكير هذه إلى الروح شديدة الفردية لريادة الأعمال والمناهضة للمؤسسات في وادي السيليكون التي نظرت بريبة إلى أي تدخل من جانب واشنطن أو المجمع الصناعي العسكري المصاحب لها.
وشكل هذا الفكر أساساً لثقافة «لا تكن شريراً» الذي يؤمن به عمالقة التكنولوجيا الذين هيمنوا على الإنترنت من أمثال «غوغل».
لكن، كما شاهدنا في حفل تنصيب دونالد ترامب، فقد مر وادي السيليكون بتغير جذري، وخضع رؤساء العديد من كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية، وبصورة مجازية، أمام الرئيس الأمريكي.
وفي الوقت الراهن، يجسد إيلون ماسك، مؤسس «تسلا» الذي يصف نفسه «ملكاً للتكنولوجيا» وتتراوح مصالحه التجارية بين الصواريخ الفضائية وشبكات الأقمار الاصطناعية وحتى وسائل التواصل الاجتماعي، هذا التآلف الجديد بين القوى التكنولوجية والسياسية.
ويرى ألكسندر كارب ونيكولاس زاميسكا، وهما اثنان من أبرز المسؤولين التنفيذيين لدى «بالانتير تكنولوجيز» أن التفكير التكنولوجي المثالي لوادي السيليكون لطالما كان منفصلاً عن الواقع، ويعتقدان أن اقتراب نهاية هذا الأمر في الوقت الراهن أمر جيد.
ويعود ذلك إلى تركيز وادي السيليكون على نزوات متقلبة للمستهلكين بدلاً من تلبية الاحتياجات الاستراتيجية العامة عن طريق توفير منصات لمشاركة الصور وتطبيقات المراسلة، وحاول مؤسسو الكثير من شركات التكنولوجيا الهروب من البلاد التي مكنتهم من البروز، لكنهم فشلوا في ذلك.
«لقد ضل وادي السيليكون طريقه». هكذا صرخ ألكسندر كارب ونيكولاس زاميسكا في جملتهما الافتتاحية بكتابهما المثير للجدل «الجمهورية التكنولوجية».
واستطردا: «تكمن المشكلة في أن التسامح مع كل شيء غالباً ما يكون إيماناً بلا شيء».
ولا يكف المؤلفان، عن ترديد أن وادي السيليكون وجه طاقاته ومواهبه ورؤوس أمواله إلى «سفاسف الأمور المؤقتة».
لذا، يتعين على وادي السيليكون حالياً إعادة بناء علاقته بالحكومة وإعادة توجيه جهوده إلى معالجة أكبر التحديات التي تواجهنا، مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والعلوم.
وعلى وجه الخصوص، يتوجب على وادي السيليكون الاتجاه إلى الدفاع عن البلاد، وهو ما فعلته «بالانتير» بتوفيرها منصات للتحليل الاستخباراتي للجيش، والمساعدة في الحفاظ على الميزة الجيوسياسية للغرب، «رغم أنها هشة».
وإجمالاً، يجب على وادي السيليكون، من وجهة نظرهما، مساعدة الولايات المتحدة في الفوز بسباق التسلح التكنولوجي في مواجهة الصين.
لكن، كيف ستضمن البلاد أن تظل هذه النخبة الهندسية تابعة لها وخاضعة للمساءلة أمام الجماهير؟
هذا هو التأثير الصاعق الذي تسبب فيه الرئيس ترامب في توجيهه للنظام إلى الحد الذي يجعل من الانتقادات التي ساقها الكتاب تبدو وكأنها قديمة بالفعل، وكأن المؤلفان كانا يقاتلان طواحين الهواء.
ومع ذلك، تسهم هذه الانتقادات في تفسير التغيير المفاجئ وغير الطبيعي في النظرة العالمية، والذي أصاب عقول غالبية النخبة في فضاء التكنولوجيا الأمريكي.
وبالرغم من أنه من غير المرجح أن يرحب المؤلفان بالوصف، إلا أن كتابهما قد ينظر إليه على أنه بيان لـ «المجمع الصناعي التكنولوجي» الذي حذر منه الرئيس السابق، جو بايدن، في خطبته الوداعية.
وإن كان كارب وزاميسكا ينتقدان الروح التي تسود وادي السيليكون، إلا أنهما يظلان مؤيدين لطرقه وقدراته الابتكارية المذهلة.
خصوصاً بعد أن تسبب نهج الشركات الناشئة الذي عززته البرمجيات فيما يتعلق بالابتكار، في بروز بعض من أكثر الشركات قيمة تاريخياً، فخلال 2024، بلغت قيمة شركات التكنولوجيا الأمريكية 21.4 تريليون دولار، ما يعادل 86% من القيمة الإجمالية لأكبر 50 شركة تكنولوجية حول العالم.
وستضمن خبرة هذه الشركات في البرمجيات والذكاء الاصطناعي حالياً أنها ستلعب دوراً محورياً على نحو متزايد في مجال الدفاع.
ويتساءل المؤلفان: «كيف ستضمن الدولة أن تظل هذه النخبة الهندسية تابعة لها وخاضعة للمساءلة أمام الجماهير؟». ورغم كونه سؤالاً جيداً، إلا أنهما لم يجيبا عنه تماماً.
ويعيب الكتاب أنه فقير بصورة مخيبة للآمال فيما يتعلق بالتعرض إلى الجوانب السلبية المحتملة للنسخة الأمريكية من الاندماج العسكري – المدني.
وقليلاً ما يشير المؤلفان إلى العواقب الأخلاقية لتطوير أنظمة أسلحة مميتة ومستقلة، أو حتى شيوع استخدام الشرطة لتكنولوجيا التعرف على الوجه.
كما لا يسلط الكتاب الضوء على المصالح الذاتية التي لا تتجزأ من ذلك، فشركات مثل «بالانتير» سوف تجني أرباحاً مهولة من نظام الأمن القومي المدعوم بالبرمجيات. ومع ذلك، يقدم كتاب «الجمهورية التكنولوجية» رؤى مثيرة، وإن كانت مزعجة في بعض الأحيان، عن إعادة توكيد القوة الصلبة للولايات المتحدة.
ويظل السؤال المطروح، حسب ما قد يقوله الماركسيون، حول ما إذا كان ترامب يمثل النزع الأخير للنظام العالمي القديم أم أنه يمثل آلام مخاض النظام الجديد.
في المقابل، في كتاب «بناة العالم»، يطرح برونو ماسايش، السياسي البرتغالي السابق، منظوراً أوسع وأكثر تاريخية، حيث سبر أغوار الارتباطات بين التطورات التكنولوجية والتغيرات الجيوسياسية.
وبحسب تحليله، فقد شهد العالم أربع لحظات جيوسياسية بالغة الأهمية في العصر الحديث أسفرت بدورها عن طرق مختلفة لبناء العالم وفهمه.
وجاءت اللحظة الأولى في أوائل القرن الماضي، حينما صار العالم بأسره خاضعاً للقياس والتحكم.
ودارت الصراعات الجيوسياسية حول ترسيخ مخططات مختلفة للعالم المرسوم على الخرائط وإنفاذها، بدلاً من محاولة اكتشاف مناطق جديدة. وشهد العالم اللحظة الثانية مع اختراع الأسلحة النووية، التي جعلت البشرية جمعاء «جبارة وعاجزة تماماً» في الوقت ذاته، حيث صارت البشرية كلها تتأرجح دائماً وأبداً على حافة الدمار الشامل.
وجاءت اللحظة الثالثة مع عودة نجم الصين إلى السطوع على المسرح العالمي ومحاولاتها لبناء ثقافة مختلفة ونموذج جديد للتنمية.
أما اللحظة الرابعة فهي في طور النشوء، ولذلك فهي ما زالت غامضة، لكنها ذات صلة بعصر الأتمتة والبرمجيات. إننا بصدد الانتقال من عالم الذرات إلى واحد تؤدي فيه البِتات إلى منافسات افتراضية.
لذلك، أصبحت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين غير مرئية وغير مباشرة، وتنطوي على معايير للإنترنت وبروتوكولات بقدر ما تنطوي على صواريخ وسفن حربية.
وذكر ماسايش، أن لعبة اليوم هي «لعبة الهدف منها هو صياغة قواعد اللعبة».
وأوضح: «يكمن الصراع الذي تفرضه العوامل الجيوسياسية ليس في السيطرة على الأراضي، وإنما في خلق أراضٍ».
وأضاف: «لا تصبح العوامل الجيوسياسية مجرد وجودية وإنما أنطولوجية.. أي حينما يكون خصمك بصدد بناء عالم اصطناعي تماماً أو تكنولوجي من شأنه إعادة تعريف واقعك أنت في نهاية المطاف».
وكان كارل روف، المستشار السياسي في إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، واحداً من أوائل الأشخاص إدراكاً للقواعد الجديدة للعبة وإعلاناً لها، بحسب ماسايش.
ونقِل عن روف قوله في عام 2004: «اليوم نحن إمبراطورية، وحينما نتحرك فإننا نخلق واقعنا الخاص. وسنتحرك من جديد بينما أنت غارق في دراسة هذا الواقع، مما سيخلق وقائع أخرى جديدة».