تحوّلات عاصفة في المشهد الاقتصادي العالمي
(البيان)-24/03/2025
عند تصفّح ملاحظات أبحاث جانب البيع خلال فترة نهاية العام الماضي، نجد الكثير من المحللين يتباهون بأفكار «استثنائية الولايات المتحدة»، و«عدم قابلية الاستثمار» في الصين، وتباطؤ أسواق الأسهم الأوروبية.
لكن تغير كل شيء خلال الشهرين الماضيين، منذ تنصيب الرئيس دونالد ترامب. فقد كشف استطلاع رأي «بنك أوف أمريكا» لمديري الصناديق الأسبوع المنقضي أن مخصصات الأسهم الأمريكية قد انخفضت بأكبر قدر مسجل في مارس.
وتدفقت الأموال بسرعة من الغرب إلى الشرق. كما ارتفعت بوضوح تقييمات الشركات الأوروبية والصينية.
وقد أدت أجندة البيت الأبيض لرفع الرسوم الجمركية، وسياسته الخارجية التي تضع أمريكا أولاً، وعدم القدرة على التنبؤ، إلى إحداث تغيير جذري في الافتراضات الاقتصادية التي تقوم عليها سرديات السوق الراسخة. كما يواصل إصرار ترامب على رفع رسوم الاستيراد، رغم كل المخاوف بشأن ارتفاع الأسعار واضطراب سلاسل التوريد، إضعاف ثقة الشركات.
ويحدث ذلك على الرغم من تقديم التزامات بمليارات الدولارات من جانب شركتي «إنفيديا» و«تي إس إم سي» التايوانية للاستثمار في تصنيع الرقائق في الولايات المتحدة. وفي الواقع، يُجري المستهلكون – وهم أساس الأداء الاقتصادي الأمريكي المتفوق مؤخراً – تخفيضات ملموسة في الإنفاق. ومن المفهوم بطبيعة الحال أن يبحث المستثمرون عن مكان آخر لاستثمار أموالهم.
وفي أوروبا، دفعت تهديدات الرئيس الأمريكي لحلف الناتو ألمانيا والاتحاد الأوروبي على نطاق أوسع إلى التعهد بمزيد من الإنفاق الدفاعي. وقد حفز هذا الطلب على الأسهم الصناعية الأوروبية. حتى أن بعض المحللين يتحدثون الآن عن «نشوة اليورو». لكن من المهم التأكيد في هذا السياق أنه ليست كل تحولات السوق نابعة من الرئيس الأمريكي، فالأسهم الأمريكية باهظة الثمن كانت تنتظر تصحيحاً منذ فترة طويلة.
وفي الصين، أعادت التطورات التكنولوجية بناء الثقة في قطاعها الخاص، خاصة بعد أن فاجأت شركة «ديب سيك» محللي التكنولوجيا بنموذجها المتقدم للذكاء الاصطناعي باستخدام رقائق رخيصة. كذلك فقد كشفت شركة «بي واي دي» لصناعة السيارات الكهربائية عن بطارية يمكن شحنها في خمس دقائق. ولعبت بكين دوراً أيضاً، بعدما عززت دعمها التحفيزي للاقتصاد المنكمش. وأعلنت عن خطة لتعزيز الاستهلاك الضعيف بقوة، لكن المستثمرين يريدون المزيد من التفاصيل.
ويحاول صانعو السياسات أيضاً مواكبة التغيرات الاقتصادية والجيوسياسية. ويشعر محافظو البنوك المركزية بالقلق. فقد اجتمع كل من بنك اليابان، والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وبنك إنجلترا، هذا الأسبوع، وأبقوا على أسعار الفائدة، وأعربوا عن مخاوفهم بشأن التوقعات غير المؤكدة. كما خفض الاحتياطي الفيدرالي توقعاته للنمو، ورفع توقعاته للتضخم، انعكاساً للآثار التضخمية للرسوم الجمركية المتقطعة التي فرضها ترامب.
وهذه الضبابية مع ضعف النشاط الاقتصادي وارتفاع توقعات التضخم تعقّد القرار بشأن أسعار الفائدة، وتزيد من خطر ارتكاب خطأ في السياسات.
وفي أوروبا، تشعر الحكومات بالقلق أيضاً بشأن كيفية تمويل زيادة الإنفاق الدفاعي. ومع استمرار تراكم ديون «كوفيد 19»، فإن المزيد من الاقتراض يُنذر برفع تكلفة الائتمان بشكل أكبر. على الرغم من أن ألمانيا تتمتع بمساحة مالية جيدة، إلا أن خططها الإنفاقية قد رفعت بالفعل عائدات السندات الأوروبية.
وفي الصين، قد تتأثر الحاجة إلى تعزيز طلب المستهلكين بالرغبة في كبح جماح القوة المالية لدعم المصدرين، وذلك تبعاً لتطورات الحرب التجارية مع أمريكا. كما أن احتمال فرض رسوم جمركية انتقامية يُضعف إلى حد ما توقعات النمو في الاتحاد الأوروبي والصين.
وفي أوقات عدم اليقين، قد يكون من المغري الاعتماد على سمات السوق المتفائلة التي تطورت في أوروبا والصين. ولكن سيستغرق الأمر الكثير من الوقت قبل أن يتمكن أي منهما من ممارسة مستوى التأثير نفسه الذي تتمتع به أمريكا على الاقتصاد العالمي والأسواق المالية.
إن ضعف التوقعات الاقتصادية في أمريكا يميل إلى إضعاف التوقعات العالمية بشكل عام. ويواجه المستثمرون الذين تضرروا بشدة من الانخفاض الأخير في مؤشر ستاندرد آند بورز 500، الذي يعد لا مثيل له، مهمةً شاقةً لتعويض خسائرهم بالاستثمار في الخارج. ويأمل الكثيرون أن تستعيد الولايات المتحدة رباطة جأشها. وحتى في هذه الحالة، فإن الخطر يكمن في أن يترك فقدان الثقة في «استثنائية أمريكا» أثراً دائماً على المشهد الاقتصادي العالمي.