تراجع القوة الأمريكية.. هل تدفع واشنطن ثمن أخطائها الاقتصادية؟
(البيان)-23/04/2025
حان وقت التخلي عن القول المأثور: «عندما تعطس أمريكا، يصاب العالم بالزكام». يروى أن هذه العبارة استخدمت بادئ الأمر في الإشارة إلى فرنسا النابليونية، غير أن تأثيرها تضاءل بعد معركة واترلو. وفي ما يخص دونالد ترامب، فإنه على وشك نسف المفهوم المعاصر لهذه العبارة.
وفي السياسة الخارجية، يعد اختيار الرئيس قراراً بألا يكون حليفاً موثوقاً يوفر ضمانات أمنية موثوقة، تغييراً مزلزلاً. فهذا يضمن أن تكون الدول الأخرى الآن أقل استعداد لقبول طلبات الولايات المتحدة. أما على الجبهة الاقتصادية، فمن المرجح جداً أن الغطرسة هي التي ستسفر عن إهانة دولة فقدت منذ أمد طويل مكانتها كأكبر دولة منتجة للسلع والخدمات على مستوى العالم.
والأمر لا يتعلق بأن استخدام ترامب للتعريفات الجمركية، باعتبارها أداة تفاوض، يعد وسيلة أضعف مما يتصور، وإنما لأن بقية دول العالم تسيطر على 85% من الاقتصاد العالمي، ولم تعد مضطرة لاتباع أي مما تمليه الولايات المتحدة عليها. وبافتراض تسيد الهدوء والروية لمشهد التجارة العالمية، فإن المتهورين في البيت الأبيض، لن يهيمنوا على الموقف. وخلال القرن الجاري، انخفضت حصة أمريكا من واردات السلع العالمية من 19% إلى 13%، بحسب البيانات الصادرة عن البنك الدولي.
من المحتمل أن هذه البيانات تقلل الأهمية الحقيقية للبلاد، لأن الواردات والصادرات بطول سلاسل التوريد، غالباً ما تنتهي باعتبارها طلباً نهائياً أمريكياً. فعلى سبيل المثال، تورد الشركات الصينية البطاريات إلى مصنعي المركبات الكهربائية الأوروبيين، ويشتريها المواطنون الأمريكيون. لكن لا يقلل ذلك من حقيقة أن حصة الولايات المتحدة من التجارة العالمية آخذة في التراجع بلا شك.
قد يسعى البيت الأبيض إلى توليد شعور بهيمنته على الاقتصاد العالمي، ليجعل دولاً أخرى تتماشى مع رغباته، خشية العواقب. لكن ما علمنا إياه هذا القرن، هو أن أزمات قليلة كانت أزمات عالمية بالفعل.
بالتأكيد، خرجت اقتصادات قليلة من الأزمة المالية العالمية أو جائحة «كورونا» دون أن تصاب بأضرار. لكن كانت هناك العديد من الأزمات الاقتصادية المحلية التي لم تنتشر إلى بقية العالم. فقد اقتصرت تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على المملكة المتحدة. وتحملت منطقة اليورو العبء الأكبر من أزمة الديون السيادية التي شهدتها في الفترة من 2010 إلى 2012. وعانت أوروبا وحدها نقص الغاز الطبيعي، وارتفاع الأسعار، عقب العملية الروسية في أوكرانيا. العولمة لا تزال أبعد ما تكون عن الاكتمال.
والولايات المتحدة دولة ذات سيادة، وهي حرة في تدمير الجزء الخاص بها من النظام الاقتصادي العالمي المستند إلى قواعد صنعتها هي بأيديها. لكنها بزيادتها التعريفات الجمركية، ثم التأرجح بشأنها، وإشاعة الخوف بين المهاجرين، وتقويض فاعلية الحكومة الأمريكية، فإن هذه السياسات ستضر الولايات المتحدة بشدة في الداخل.
وتضع الصدمة التضخمية الركودية، التي تولد شكوكاً تجارية هائلة، وارتفاع أسعار السلع المستوردة، الاحتياطي الفيدرالي في مأزق. فهو يكافح لتحديد ما إذا كان يجب أن يقلق أكثر بشأن ارتفاع معدلات البطالة، أو ارتفاع الأسعار. لكن الآثار التضخمية لتعريفات ترامب أصابت الولايات المتحدة بشكل رئيس. ويمكن أن تواجه الدول الأخرى صدمة في الطلب، وأن تعوض ذلك ببساطة بسياسات مالية أكثر تساهلاً.
لكن لا يحول ذلك دون وقوع قدر من الأضرار الجانبية. وتعد الدول التي تسجل فيها الصادرات نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي، وتتمتع بشراكة تجارية كبيرة مع الولايات المتحدة، مثل كندا والمكسيك، هي الأكثر عرضة للتأثر. أما الاقتصادات الأصغر التي تصدر الأغذية والسلع الأساسية، مثل القمصان، إلى الولايات المتحدة، فمن المرجح أن تكون الأكثر تضرراً.
لكن عندما يخضع خبراء الاقتصاد نماذجهم للمعايرة، ويفحصون الحقائق على أرض الواقع، يتبدى لهم أن الولايات المتحدة هي التي تبدو ضعيفة.
وكشفت شركة «كونسنسس إكونوميكس»، التي تجمع توقعات القطاع الخاص، أن خبراء الاقتصاد يتوقعون في المتوسط نمو اقتصاد الولايات المتحدة بنسبة تقل بنحو نقطة مئوية خلال العام الجاري، مقارنة بما كانوا يرجحونه في وقت تنصيب ترامب رئيساً، ولا يبدو النمو الاقتصادي لعام 2026 أفضل حالاً. وأظهرت تقديرات الشركة، تقليص الخبراء توقعاتهم بشأن نمو الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو والصين، لكن بنسب أقل كثيراً.
سيشهد الأسبوع الجاري اتجاه وزراء المالية ومحافظي المصارف المركزية إلى واشنطن، لحضور اجتماعات الربيع الخاصة بصندوق النقد والبنك الدوليين. وغالباً ما تكون هناك دولة بعينها في مثل هذه التجمعات التي تكتسب صفة المنبوذ، ولا شك أن الأصابع ستشير ناحية الولايات المتحدة هذا العام. ويكمن السؤال في مدى اللطف الذي ستتحدث به الدول المشاركة. لكن مشكلات أمريكا الاقتصادية لا تخص سواها. وحينما تطلق النار على قدميها، فلن تنزف إلا الولايات المتحدة.