«الرافعات الخفية».. قنابل موقوتة في النظام المالي العالمي
(العربية)-05/05/2025
*إيوان هيلي
في عام 2021 هزّ انهيار مكتب عائلي غامض ذي أصول تبلغ 36 مليار دولار أرجاء «وول ستريت» بقوة فاقت كل التوقعات.
فقد استطاع مكتب «أرشيغوس» سراً تكوين محفظة استثمارية ضخمة، مستخدماً سلسلة من الرهانات الهائلة، التي تركزت على عدد قليل من الشركات، وقد أسهم اللجوء إلى أدوات مالية مشتقة معقدة ذات رافعة مالية، بالإضافة إلى عدم وجود متطلبات للإفصاح، في تمكين الصندوق الذي كان يديره بيل هوانغ من إخفاء حجم مراكزه الاستثمارية عن السوق الأوسع نطاقاً.
وحتى السماسرة الكبار الذين أقرضوا هوانغ هذه الأموال، ليتمكن هوانغ الذي أُدين لاحقاً بالاحتيال من تمويل رهاناته، لم يكونوا حكماء بالمرة، لذلك، حينما انهار المكتب انتهى الأمر بما يقل عن 10 مصارف إلى أن تعاني من انكشافات ائتمانية تزيد على 50 مليار دولار، بسبب «أرشيغوس».
وتُعد التداعيات على السوق المالية الأوسع نطاقاً مثالاً للمخاطر التي ترى كل من الجهات التنظيمية والمستثمرين أنها تشكلها «الرافعة المالية الخفية»، ويعود ذلك إلى أن الرافعة المالية الخفية تمثل جيوباً للديون التي يصعب اكتشافها، وتتراكم في جوانب لا تخضع لرقابة شديدة، مثل مكاتب العائلات، وهي شركات إدارة ثروات خاصة للأثرياء، وكذلك بصناديق التحوط، ما يُعزى إلى مختلف الأسباب.
وقال جون شيندلر، الأمين العام لمجلس الاستقرار المالي: «إنها جيوب تستخدم فيها الرافعة المالية، لكننا لا نعلم بأمر وجودها، ولا نعلم حتى مدى كبر حجمها. إنها مخفية عن أعيننا، ويمكن للرافعة المالية، حال إساءة إدارتها، أن تفاقم من نطاق الصدمات».
وتابع قائلاً: «إذا كنت تبالغ في استخدام الرافعة المالية ولديك انكشاف على أصل بعينه، فربما سيكون لزاماً عليك التقدّم بطلبات لتغطية الهامش أو تقديم ضمانات، ما يعني أنك ربما ستضطر إلى بيع هذا الأصل، أو قد تضطر إلى بيع بعض من الأصول الآمنة التي كنت تحتفظ بها احتياطياً».
وأسهب: «في كلتا الحالتين عليك أن تخوض غمار ديناميكيات ستتسبب في تغيير الأسعار على نحو بالغ».
ويخضع عدد من المؤسسات المالية، مثل مكاتب العائلات وصناديق التحوط، لقدر ضئيل من متطلبات الإفصاح، إن خضعت لها أصلاً.
وحتى عندما تكون هذه المؤسسات ملزمة بالإفصاح عن تفاصيل حيازاتها، فيمكن لاستخدام مُشتقات مالية معقدة أن يصعّب على السلطات قياس قدر الرافعة المالية، وربما تكون هناك أشكال تتسم بالاحتيال أو الكذب من الرافعة المالية.
ويرى أحد كبار مسؤولي الاستثمار لدى واحد من صناديق التحوّط الائتماني، أن الرافعة المالية التي يمكننا رؤيتها «ليست إلا قمة جبل الجليد».
وأدى تكشّف هذه الرهانات إلى مفاقمة الخسائر، التي تُمنى بها السوق، بداية من الأزمة المالية العالمية في عام 2008، مروراً بالاضطرابات التي سادت سوق السندات الحكومية البريطانية بسبب الموازنة «المصغرة»، التي أعلنتها رئيسة الوزراء ليز تراس في عام 2022، وحتى اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في وقت مبكر من ذلك العام.
واستخدمت «أرشيغوس» مبادلة مجموع العائد مع المصارف للرهان على التقلبات في الأسهم، وتتحقق المكاسب أو الخسائر بناء على ارتفاع الأسهم أو انخفاضها، بينما كانت المصارف هي التي تملك الأسهم في حقيقة الأمر، وبالتبعية فقد كان المكتب العائلي يراهن باستخدام أموال مُقترضَة.
وحينما هوت قيمة الأسهم التي كانت تراهن عليها اضطر المكتب العائلي إلى البيع الاضطراري، مع مطالبة المُقرضين الشركة بمزيد من الأموال لتغطية قيمة الضمانات. وتخلّفت «أرشيغوس» عن سداد طلبات تغطية الهامش، فاضطرت المصارف إلى تصفية المراكز الاستثمارية.
وبالنسبة لأسعار الأسهم التي كانت في حيازتهم، مثل شركة بايدو الصينية للتكنولوجيا، فقد انهارت. وإن كان ازدياد الديون التي يَصعُب اكتشافها حادثة نظامية تنتظر الوقوع، إلا أنها تظل موضع خلاف بين الجهات التنظيمية، والهيئات العامة، والمستثمرين.
ورداً على استشارة من مجلس الاستقرار المالي حول «الوساطة المالية غير المصرفية»، أوضحت «بلاك روك» أن «إفلاس صندوق مفرد أو طلبات تغطية الهامش، التي تواجه أحد المتعاملين في السوق ليست أمثلة في حد ذاتها على وجود خطر نظامي، ما لم يكن التأثير شديداً على مؤسسة بالغة الأهمية أو سوق رئيسية».
ومع ذلك، أشار منتقدون إلى نمو متسارع للجوانب، التي لا تخضع للرقابة، مثل صناديق التحوط، والمكاتب العائلية، وصناديق الديون الخاصة، والتي عادة ما تخفي هذه الديون، معتبرين إياها جوانب قد تشكل خطراً نظامياً.
وفي حين تحتفظ شركات التأمين، وصناديق المعاشات التقاعدية، وصناديق الاستثمار، بأغلبية الأصول المالية غير المصرفية، إلا أن مجلس الاستقرار المالي سلّط الضوء على أن «أكثر من 90 % من الرافعة المالية في الميزانيات العمومية يقع تحت بند يدعى الوسطاء الماليين الآخرين، مثل صناديق التحوّط، وشركات التمويل، والشركات القابضة، وأدوات التوريق».
وفي عام 2024 أدارت صناعة صناديق التحوط العالمية أصولاً بلغ إجماليها 4.5 تريليونات دولار، وازدادت الأصول بمقدار 401.4 مليار دولار خلال العام الماضي، بارتفاع قدره 56 % منذ عام 2015، بحسب البيانات الصادرة عن شركة «إتش إف آر» للبحوث.
ولدى تحديدها موطناً بعينه للخطر الذي تشكّله صناديق التحوّط نشرت هيئة الأوراق المالية والأسواق الأوروبية تقريراً في وقت مبكر من العام الجاري، توصلت فيه إلى أن مجموعة من الصناديق تدير أصولاً بقيمة 12 مليار يورو فقط، تستخدم رافعات مالية أكبر بمقدار 18 ضعفاً لوضع رهانات في الأسواق بقيمة 210 مليارات يورو.
وتنامت المراكز الاستثمارية، التي اتخذتها صناديق التحوّط في سوق سندات الخزانة الأمريكية إلى حد كبير إلى الدرجة التي دفعت مصرف إنجلترا إلى إخضاع اقتراض القطاع لتدقيق تنظيمي أكبر، واعتبره خطراً يداهم الاستقرار المالي.
وتزداد بقوة أحجام مكاتب العائلات وشعبيتها، وتشير تقديرات «ديلويت» إلى أن القطاع القوي، الذي يضم أكثر من 8 آلاف مكتب يدير أصولاً بقيمة 3.1 تريليونات دولار على مستوى العالم.
وتتوقع «ديلويت» ازدياد أعداد الصناديق إلى 11 ألفاً بحلول عام 2030، وأن يتضخم إجمالي الأصول المُدارة إلى 5.4 تريليونات دولار. ودفع اتحاد صناعة الأوراق المالية والأسواق المالية بحُجة، مُفادها أنه على الرغم من نمو القطاع «إلا أن وقوع حوادث مثل أرشيغوس بات أقل احتمالاً في عالم اليوم»، بسبب متطلبات الإفصاح المُحسّنة بشأن المبادلات، وهي التحسينات التي تطبقها هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، ولجنة تداول السلع الآجلة منذ عام 2022.
وبالمثل أشارت جمعية المبادلات والمشتقات الدولية إلى أن «متطلبات الإفصاح هذه كانت لتتيح للجهات التنظيمية اكتشاف تزايد المراكز الاستثمارية الخطرة».
وتوسع دور الائتمان الخاص على نحو سريع ليملأ الفراغ، الذي تركته المصارف وقدره 2.1 تريليون دولار، وذلك بحسب تقرير الاستقرار المالي العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي في عام 2024، واشتمل التقرير على تحذير من أن القطاع «لم يمر أبداً بركود اقتصادي شديد بحجمه وأفقه الحاليين»، وأن «أوجه الضعف بصناعة الائتمان الخاص قد تصبح نظامية في ضوء الرقابة الاحترازية المحدودة». من ناحية أخرى، تواجه الجهات التنظيمية صعوبة في أن تقرر ما إن كانت الرافعة المالية الخفية تُعتبر حادثة بانتظار التحقق.
وقال شيندلر من مجلس الاستقرار المالي: «يحاول الجميع حماية أموال مستثمريهم، أو أموالهم. لكن ربما تكون هناك صدمة لم يتوقعونها بعد. ربما يكون هناك خطب ما لم يختبرونه بعد».