مع اضطرابات الأسواق الآسيوية.. هل تلوح في الأفق حرب عملات ؟
(البيان)-12/05/2025
شهدت الأسواق الآسيوية خلال الأيام الماضية تحركات حادة، أعطت المستثمرين تصوراً حياً لما قد تبدو عليه حرب عملات شاملة محتملة، في ظل الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلا أن الأوضاع لم تصل بعد إلى حد الذعر، ويبدو من غير المرجح – بناءً على المؤشرات الحالية – أن يحدث ذلك في المستقبل القريب.
وشهد الأسبوع الماضي أحداثاً درامية غير معتادة في قطاع من الأسواق المالية، يتسم عادة بالهدوء، حيث قفز الدولار التايواني بشكل مفاجئ، بنسبة وصلت في ذروتها إلى 10 % خلال يومين، ورغم استقراره النسبي لاحقاً، فإنه سجل ارتفاعاً بنسبة 6 % منذ بداية الشهر الجاري.
وفي تطور موازٍ، لجأت سلطة النقد في هونغ كونغ إلى التدخل بأقوى وتيرة منذ عام 2020، لكبح جماح ارتفاع عملتها مقابل الدولار الأمريكي، في خطوة تنذر بعودة المضاربين الذين يراهنون على انهيار نظام الربط المستمر منذ 42 عاماً بين العملتين، وهي مراهنة تُعد من أشهر الصفقات الخاسرة في الأسواق المالية، حيث حاول الكثيرون وفشلوا، لكنهم سيحاولون مرة أخرى، فهي لعبة مثيرة، رغم أنها تنتهي دائماً بالخسارة.
وإذا نظرنا إلى العملتين، نجد أن الدولار التايواني هو الذي جذب معظم اهتمام الأسواق. ومن السهل أن نتخيل سيناريوهات كارثية، انطلاقاً من هذا الوضع، حيث يكمن أحد الأسباب الرئيسة للقلق، في أن شركات التأمين على الحياة في تايوان، تمتلك استثمارات ضخمة بالدولار الأمريكي – حوالي 700 مليار دولار، راكمتها خلال السنوات العشر الماضية. ومن بواعث القلق أيضاً، أن حوالي ثلث هذا المبلغ يفتقر لأي آليات تحوّط ضد مخاطر الصرف، وهو ما يعني أن هذه الشركات تخسر حالياً أموالاً كبيرة على الورق.
وتثير السرعة الفائقة لارتفاع العملة التايوانية، مخاوف مبررة، إذ تُعتبر التحركات الحادة في مخططات الأسواق – صعوداً أو هبوطاً – مؤشراً سلبياً لمختلف فئات الأصول. ورغم أن التداعيات قد تستغرق وقتاً للظهور، إلا أن التجربة تؤكد أن جهة ما ستتكبد حتماً خسائر جسيمة، كما أن احتمالات وقوع حوادث مالية تظل قائمة.
ويكمن الخطر أيضاً في إمكانية تحول هذا السيناريو إلى نبوءة تحقق ذاتها، حيث قد يدفع القلق المستثمرين الآسيويين – بشكل مبرر تماماً – إلى التخلص من مقتنياتهم الدولارية، أو تعزيز تحوطاتهم ضد مخاطر الصرف، وهي إجراءات تُسهم بطبيعتها في تعميق الضغوط الهبوطية على العملة الأمريكية.
ويحذر ستيفن جين، وهو خبير في شركة يوريزون إس إل جي لإدارة الأصول، من أن الوضع قد يصبح أكثر سوءاً، حيث ذكر في تقرير نشره منذ أيام، هو وزميلته جوانا فريير، أن الدول الآسيوية التي تعتمد على التصدير، ربما جمعت ما يصل إلى 2.5 تريليون دولار من المدخرات بالدولار الأمريكي منذ جائحة «كورونا»، قبل 5 سنوات، وهو ما قد يولّد ما وصفه بـ «مخاطر الانهيار الجليدي» المحدقة بالدولار.
وحذّر ستيفن جين من أن «التحولات في البيئة الاقتصادية الكلية، كفروقات العائد والأوضاع المالية النسبية والتقييمات والمتغيرات الجيوسياسية، قد تُطلق شرارة موجة بيع ضخمة للدولار»، مؤكداً أن «مخاطر تعرض المستثمرين لصدمة جراء موجة بيع حادة وغير متوقعة، تتزايد باستمرار». ورغم أنها تُصنف ضمن الأحداث نادرة الحدوث، إلا أنها يجب أن تستدعي اهتماماً جدياً.
ويكتسب السياق العام أهمية بالغة، إذ يُظهر دونالد ترامب حرصاً واضحاً على عقد صفقات تجارية عالمية، كما اتضح من الاتفاق المُبرم مع المملكة المتحدة، وفي ضوء هذا التوجه، لا سيما مع تنامي الدعوات داخل الإدارة الأمريكية لإضعاف الدولار، فإن الارتفاع الحاد للعملة التايوانية، قد يُخفف بعض الهواجس الأمريكية.
وظهرت مؤشرات على تراجع محتمل للإدارة الأمريكية عن فكرة سعي ترامب لعقد اتفاق دولي شامل، يستهدف إضعاف الدولار عالمياً، مع ربط الضمانات الدفاعية والأمنية بالسندات الحكومية الأمريكية، حيث تبدو الفكرة الآن «ميتة عند الولادة»، بالنظر للمخاطر المُحيطة بسندات الخزانة، والتركيز المتزايد على الرسوم الجمركية. مع ذلك، تحتفظ الأسواق بحساسيتها إزاء دور العملات في الاتفاقيات التجارية. وفي هذا الصدد، أوضح شهاب جالينوس، محلل العملات لدى «يو بي إس» في نيويورك، أنه «لا يوجد دليل مباشر» لتأثير المفاوضات المحتملة حول التعريفات على الوضع الراهن، محذراً من أنه «إذا اعتقدت الأسواق في إمكانية حدوث شيء مماثل، فقد يؤدي ذلك لاضطرابات»، نتيجة لسعي المستثمرين والمضاربين لاستباق أي اتفاق محتمل.
ورجّح جالينوس أن تقتصر أي صفقات تجارية آسيوية-أمريكية على تطمينات عامة، تحظى بقبول واسع، مثل رفع أسعار الفائدة، وتعزيز العملات بشكل معتدل، دون الخوض في تفاصيل المستويات أو الأطر الزمنية، ما يجعل الوضع أكثر قابلية للإدارة، ويشير إلى تعديلات سوقية تدريجية ومستقرة، مع التأكيد على أن التواصل الفعال – الذي لا يُعد حالياً من نقاط القوة الأمريكية – سيكون حاسماً في تحقيق هذا الهدف.
وتلوح في الأفق مخاطر نادرة الحدوث، لكنها مدمرة، تتمثل في سيناريوهات مثل «الانهيارات» وحروب العملات، وهي احتمالات مستبعدة، إلا أنها تستحق الانتباه، نظراً لتأثيرها الكارثي المحتمل، وإذا كان عام 2025 قد قدّم درساً واحداً حتى الآن، فهو ضرورة الاستعداد الدائم للصدمات غير المتوقعة.
في المقابل، يحمل منطق «التهدئة الجماعية» قوة حجة كبيرة، فرغم الصعود المثير للدولار التايواني، إلا أن ارتفاعه منذ بداية العام، لا يتجاوز 8 %، مقابل الدولار الأمريكي، وهي النسبة ذاتها التي سجّلها اليورو، وبينما حدث التحرك التايواني بسرعة خاطفة – وهو ما قد لا يكون إيجابياً – إلا أنه قد لا يكون سوى تصحيح تعويضي، كما أن الانخفاض الأوسع للدولار الأمريكي، يسير حتى الآن بشكل منتظم، باستثناء لحظات قليلة مقلقة.
من جهة ثانية، تبقى المخاطر الجوهرية المحدقة بالدولار كما هي، والتي تتمثل في: الأخطاء الجيوسياسية الأمريكية التي قد تؤدي لانهيار مفاجئ في الثقة بالدولار، كعملة احتياطي عالمية رئيسة، والسياسات الخاطئة التي قد تدفع الاقتصاد نحو الركود، وتؤدي إلى هبوط حاد في أسعار الفائدة الأمريكية بوتيرة متسارعة.
وعموماً، من المستبعد أن تتسبب آسيا في إحداث فوضى في هذا المضمار، إذ تحتفظ الولايات المتحدة وحدها بالقدرة على تحقيق ذلك.