إعادة ضبط علاقات لندن وبروكسل.. خطوة رمزية بطريق طويل
(البيان)-22/05/2025
بعد تسع سنوات على استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لا تزال الأصوات تتصاعد من اليمين السياسي البريطاني، واصفة الجهود التي تستهدف إعادة ضبط العلاقة مع الاتحاد الأوروبي بأنها «استسلام»، وهو ما يكشف عن مدى الانقسام العميق الذي لا يزال يكتنف هذه القضية، ويأتي وسط مناخ يفيض بالمعلومات المضللة.
ولا يشكّل الاتفاق الأخير تنازلاً جوهرياً، كما أنه لا يُعد إنجازاً بالغ الأثر في مضمونه العام. لكنه، على غرار الاتفاقات التجارية التي أبرمتها المملكة المتحدة مؤخراً مع كل من الهند والولايات المتحدة، يمثل خطوة جديرة بالاهتمام.
وتكمن أهميته أساساً في رمزيته، إذ يُعد أول اتفاق شامل على مستوى المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي منذ خروجها من التكتل، ويعكس اعترافاً متبادلاً بأن تعزيز التعاون يخدم مصالح الطرفين.
وبالنظر إلى نفوذ الجيش البريطاني وصناعاته الدفاعية، فإن جوهر الاتفاق يتمثل بحق في ميثاق أمني ودفاعي، من شأنه أن يُضفي طابعاً رسمياً على التعاون في مجالات التدريب العسكري والنقل، والأمن السيبراني والفضائي، وتعزيز صلابة البنية التحتية، ومواجهة التهديدات الهجينة.
وبعد توقيع اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، سيمهد هذا الميثاق الطريق أمام انخراط المملكة المتحدة في «صندوق العمل الأمني لأوروبا» الذي تبلغ قيمته 150 مليار يورو، وهو مكسب مهم لكلا الطرفين.
وكانت الضغوط التي يواجهها رئيس الوزراء كير ستارمر للحد من الهجرة دفعت حكومته إلى القبول ـ على مضض ـ بالعمل على إنشاء برنامج تنقل شبابي يسمح لمن تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً بالسفر والعمل في بلدان الجانبين.
وقد أُعيدت صياغة البرنامج تحت اسم «برنامج تجربة الشباب»، على أن يكون محدود المدة ومقيداً من حيث الأعداد. ومع ذلك، فهو هدف يستحق السعي إليه، لما يتيحه من فرص مهمة للشباب البريطانيين.
وبالنسبة للجانب الاقتصادي لإعادة الضبط فهو أكثر محدودية، غير أن الاتفاق على العمل نحو إبرام صفقة بيطرية تتيح تصدير معظم المنتجات الزراعية والغذائية البريطانية إلى الاتحاد الأوروبي من دون الخضوع لإجراءات تفتيش مرهقة ومعاملات ورقية معقّدة، يُعد وفاءً بأحد التعهدات الواردة في البيان الانتخابي لحزب العمّال.
وبالاقتران مع ربط أنظمة تداول الانبعاثات بين الجانبين، تقدر الحكومة أن هذه الخطوة ستُعزز الاقتصاد البريطاني بما يقارب 9 مليارات جنيه إسترليني بحلول عام 2040، حتى وإن كانت هذه الزيادة تُعوض جزءاً ضئيلاً فقط من الخسائر الاقتصادية الإجمالية الناجمة عن «بريكست».
في المقابل، لا يخلو الأمر من بعض التنازلات، فبريطانيا تقبل بمبدأ «المواءمة الديناميكية»، أي الالتزام التلقائي بالقواعد الأوروبية المتطورة المتعلقة بالمنتجات النباتية والحيوانية، مع منح محكمة العدل الأوروبية صلاحية الفصل النهائي فيما يخص تفسيرات قانون الاتحاد الأوروبي في هذا المجال. كما منحت بريطانيا قوارب الصيد الأوروبية حق الوصول إلى مياهها الإقليمية لمدة 12 سنة إضافية، أي أكثر من ضعف ما كانت تقترحه سابقاً.
وتُهاجم أحزاب المعارضة اليمينية هذا التوجه، معتبرةً أن بريطانيا بذلك تتحول إلى مجرد تابع تنظيمي، وتُفرط في عناصر محورية من «استقلالها» بعد «بريكست»، وتتنازل عن مصالح قطاع الصيد لديها. ومع ذلك، فإن الفوائد التي تم الترويج لها جراء الابتعاد التنظيمي عن الاتحاد الأوروبي ثبت إلى حد كبير أنها وهمية، ومن ثم فإن الصفقة البيطرية تستحق ما بُذل من أجلها.
ورغم أن قطاع الصيد البحري يحتل مكانة رمزية كبيرة في الوعي الوطني، إلا أنه لا يشكل سوى 0.03% فقط من الناتج المحلي الإجمالي وفق أرقام عام 2021.
وفي وقت باتت فيه أوروبا مُطالبة بتحمّل مسؤوليات أمنها بشكل أكبر، في ظل التهديد المتزايد من جانب روسيا، فإن من المؤسف أن بعض دول الاتحاد الأوروبي اختارت ربط إحراز تقدم في ملفات أكثر ثقلاً، مثل الدفاع، بتنازلات بريطانية في قطاع صغير كالصيد.
إن الواقع يفرض نفسه بالفعل، فمنذ مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، لا سيما عبر الاتفاق المختصر الذي أبرمه بوريس جونسون، باتت لندن في موقع الطرف المطالِب في أي محاولة لاحقة لتحسين شروط العلاقة.
وعلى عكس ما يدعيه مؤيدو «بريكست»، فإن الطرف الأصغر في أي مفاوضات تجارية يكون دائماً في حاجة إلى الطرف الأكبر أكثر مما هو العكس.
ويمكن القول إن حزب العمال أضاع شيئاً من الزخم الإيجابي الذي حظي به بعد الانتخابات الأخيرة في بروكسل، بسبب تواضع طموحه الذاتي وتمسكه بخطوط حمراء في بيانه الانتخابي، تُصر على عدم العودة إلى السوق الأوروبية الموحدة أو الاتحاد الجمركي أو حرية التنقل.
لكن إعادة الضبط الجديدة تحاول، على الأقل، الاقتراب من حدود تلك الخطوط الحمراء. ويتعين على حكومة ستارمر أن تستثمر هذا التقدم كمنطلق لإعادة تنظيم أكثر طموحاً مع مرور الوقت، مع الشريك الذي يبقى الأهم لبريطانيا تجارياً وأمنياً.