سويسرا تقدم درساً للعالم.. تنافسية فائقة رغم قوة العملة
(البيان)-06/04/2025
وسط كل الحديث الدائر حول ما إذا كانت الولايات المتحدة حريصة على تخفيض قيمة الدولار القوي، كطريقة لإنعاش الصناعة الأمريكية، من المهم الإشارة إلى أن الدولار ليس هو العملة الأقوى في العالم، ولم يكن كذلك منذ عقود، بل هذا اللقب يجب أن يذهب إلى الفرنك السويسري، ومع ذلك فإن قوة الفرنك لم تقوض القدرة التنافسية لسويسرا.
إن لدى الاقتصاد السويسري، الذي يعد أغنى اقتصاد رئيس في العالم، عملة وقاعدة صناعية قويتين، بل لقد كان الفرنك السويسري العملة الأفضل أداء خلال العقود الخمسة الماضية. ليس هذا فحسب، فقد نجح في الحفاظ على تفوقه خلال السنوات الـ 25 والـ 10 والـ 5 الأخيرة، وكان قريباً من القمة العام الماضي، الذي شهد تقدم بعض العملات الأكثر تدهوراً مقابل الدولار. إذن، لا شيء يمكن مقارنته بقوة الفرنك الدائمة.
وتتحدى سويسرا، بذلك، الافتراض الشائع بأن قوة العملة تضعف قدرة الدولة التجارية، وتجعل صادراتها غير قادرة على المنافسة، فقد شهدت صادرات سويسرا نمواً مطرداً، واقتربت من مستوياتها التاريخية القياسية – سواء كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي السويسري (75 في المئة)، أو كحصة من إجمالي الصادرات العالمية (قرابة 2 في المئة).
ويبدو أن النقاشات الاقتصادية العالمية، قد غاصت في هوس غير مبرر بتقييمات العملات، والتي لا تمثل سوى عامل واحد من بين عوامل متعددة، تشكل الوضع التنافسي للدول. وعلى غرار ألمانيا واليابان في أوج ازدهارهما، اكتسبت سويسرا سمعة مرموقة في تقديم سلع وخدمات ذات جودة استثنائية، حتى أصبح العالم مستعداً لدفع علاوة سعرية، مقابل الحصول على منتجات تحمل علامة «صنع في سويسرا».
ورغم صورتها كملاذ للثروات غير المشروعة، فإن اقتصاد سويسرا أظهر منذ عقود ديناميكية وتنافسية فريدة، إذ تربعت سويسرا لأكثر من عقد على قمة تصنيف الأمم المتحدة للاقتصادات الأكثر ابتكاراً، سواء من حيث الموارد المخصصة للابتكار – عبر التعليم الجامعي التطبيقي والبحث والتطوير – أو من حيث العوائد المتحققة من هذه الاستثمارات.
وتحقق سويسرا أكثر من 100 دولار من الناتج المحلي الإجمالي لكل ساعة عمل، متفوقة بذلك على جميع الاقتصادات العشرين الكبرى الأخرى من حيث الإنتاجية. كما يشجع نظامها السياسي والاقتصادي اللامركزي، صعود المؤسسات الصغيرة، التي تشكل أكثر من 99 في المئة من إجمالي الشركات السويسرية، فضلاً عن امتلاكها حصة كبيرة من الشركات ذات القدرة التنافسية العالمية في قطاعات متنوعة، من المستحضرات الصيدلانية، وصولاً إلى السلع الفاخرة.
وتحتل سويسرا المرتبة الأولى بين الاقتصادات الكبرى في تصنيف «مختبر النمو» بجامعة هارفارد، من حيث «تعقيد الصادرات»، وهو مؤشر يعكس مدى تطور المهارات المطلوبة لإنتاج السلع المُصدّرة. وتشمل صادراتها طيفاً واسعاً، يمتد من الشوكولاتة والساعات الفاخرة، إلى الأدوية والمواد الكيميائية، وهو ما يُدحض الاعتقاد السائد بأن قوة العملة تقتل المصانع.
ويشكل القطاع الصناعي السويسري 18 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، ما يجعله من أكبر القطاعات الصناعية بين الاقتصادات المتقدمة، فيما تشكل المنتجات «عالية التقنية» أكثر من نصف صادرات البلاد – متجاوزة المستوى الأمريكي بأكثر من الضعف. ونظراً لارتفاع أسعار السلع المتطورة، فقد ساهم ذلك في حفاظ سويسرا على فائض مستمر في حسابها الجاري، بمتوسط يتجاوز 4% من الناتج المحلي الإجمالي منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
وتعيد سويسرا توظيف الدخل المتحقق من التجارة في استثمارات خارجية ضخمة، ما أدى إلى تكوين فائض صافٍ في الاستثمار الدولي، يتجاوز 100% من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي يعزز قدرتها على مواجهة الصدمات الخارجية. وهذا يناقض تماماً الوضع الأمريكي، الذي يعاني من عجز حاد في الحساب الجاري وصافي الاستثمار.
وإذا كانت ثمة نقطة ضعف في الاقتصاد السويسري، فهي تتمثل في الارتفاع الكبير للدين الخاص، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، غير أنها – وعلى عكس الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية – لا تعاني من انتشار ظاهرة «الشركات المتعثرة»، التي تحقق أرباحاً متدنية، لا تكفي حتى لتغطية الفوائد المترتبة على ديونها.
وبعيداً عن الضجيج الإعلامي، فقد بنى السويسريون اقتصاداً متيناً، يصمد في مختلف الظروف، إذ واصل الفرنك السويسري ارتفاعه بثبات، بغضّ النظر عن اتجاه الدولار أو حالة الاقتصاد العالمي، سواءً كان يعاني من ركود أم ينعم بانتعاش.
ويبدو أن السويسريين يمتلكون فهماً عميقاً للحفاظ على التنافسية، فعندما قفزت قيمة الفرنك في 2015، نتيجة تغيير السياسة النقدية، سارع المصنّعون إلى التركيز على الصادرات عالية التقنية، الأقل تأثراً بتقلبات أسعار الصرف.
ويعتقد كثير من صانعي السياسات، أن «المعجزات الاقتصادية» في شرق آسيا، ارتبطت بتخفيض قيمة العملات، إذ ساعدت أسعار الصرف المنخفضة دولاً مثل كوريا الجنوبية والصين، على تسريع نمو صادراتها الصناعية. ومع ذلك، لعبت عوامل أخرى، كالبنية التحتية والانفتاح على رأس المال الأجنبي، دوراً أكثر تأثيراً في هذا النجاح. ومع تقدم هذه الدول على منحنى التنمية، تراجعت تدريجياً أهمية أسعار الصرف، كمحدد رئيس للنمو الاقتصادي.
إن الاقتصادات المتقدمة تحتاج إلى التنافس على أساس الجودة أكثر من السعر، إذ يمكن لسياسة تخفيض قيمة العملة، أن تأتي بنتائج عكسية، من خلال تشجيع المنتجين المحليين على التركيز على تصنيع سلع أرخص ثمناً وأقل جودة. وفي نهاية الأمر، فإن التجربة السويسرية تقدم درساً مهماً لدول مثل الولايات المتحدة، مفادها أن ضعف العملة لا يشكل حلاً سحرياً لإصلاح قطاع صناعي متعثر.