هل لا بد من أزمة للحصول على عملات رقمية للبنوك المركزية؟
(البيان)-03/07/2025
يرى كثيرون أن رمز الإيداع الرقمي «جيه بي إم دي»، الذي سيصدره «جيه بي مورجان تشيس»، لا يضيف الكثير من القيمة كتقنية للدفع، باستثناء تسهيل تداول أصول العملات المشفرة.
ويروج البنك لرمز الإيداع الرقمي كونه وسيلة لجعل المدفوعات العابرة للحدود أكثر سرعة وكفاءة، إلا أنها لن تعمل إلا إذا كان المرسل والمستقبل عميلين لدى «جي بي مورجان».
إن احتياطات المصارف التجارية لدى المصرف المركزي إذا خضعت للترميز فسيمكن للأموال حينها أن تنتقل «بسرعة الإنترنت» بين مختلف المصارف، وحتى عبر الحدود، وإذا صار الأمر كذلك فسيكون هناك نظام نقدي رقمي من مستويين، هما رموز الإيداع لدى المصارف التجارية، والعملات الرقمية التي تصدرها المصارف المركزية، وهو مشابه تماماً لنظامنا النقدي الحالي المكون من مستويين، ودائع البنوك التجارية، واحتياطات البنوك لدى المصرف المركزي.
وفي عالم مثل هذا ستكون حالات استخدام «جيه بي إم دي» أكبر بكثير، لأنه سيمكن استبدالها في الوقت الفعلي برموز ودائع صادرة عن «بنك أوف أمريكا» أو «إتش إس بي سي»، وبرغم أن هذه الرموز ليست موجودة حتى الآن، إلا أن المصارف ستصدرها.
وقد كتب الكثير عن العملات الرقمية، التي تصدرها المصارف المركزية، وحالات استخدامها، ومخاطرها، وكيفية تصميمها.
وباختصار فالعملات الرقمية للبنوك المركزية تعد شكلاً رقمياً للعملة الرسمية للبلاد يصدرها ويتحكم فيها البنك المركزي.
ومن الناحية النظرية يمكن أن تأتي هذه العملات على أحد شكلين: عملات رقمية تصدرها المصارف المركزية للأفراد، ويمكن لعامة الناس استخدامها، وستكون نظيراً رقمياً للعملات الورقية، والشكل الثاني هو العملات الرقمية، التي تصدرها البنوك المركزية للمعاملات الكبيرة، التي يمكن استخدامها فقط في التعاملات بين البنوك.
وإصدار البنك المركزي عملات رقمية للأفراد ليس مطروحاً في الولايات المتحدة حالياً، حيث إن هناك العديد من القضايا التي يجب حلها أولاً.
والعقبة الكبرى حالياً هي إدارة ترامب، التي أصدرت أمراً تنفيذياً يحظر إصدارها، ومن المفترض أن يكون سبب ذلك هو رغبة ترامب في حماية صناعة العملات الرقمية الخاصة، وهو أحد العناصر الفاعلة فيها، من المنافسة الحكومية، وهذا أمر مؤسف بالتأكيد، فلِمَ يُحظَر على المواطنين حمل عملات الدولة إلا إن كانت بالشكل القديم المتمثل في الأوراق أو القطع المعدنية؟ وحسب ما قال داليب سينج، كبير خبراء الاقتصاد العالميين لدى «بي جي آي إم»، إذا كان العالم يتجه نحو اعتماد العملات الرقمية، التي تصدرها بنوك مركزية، فمن واجب الولايات المتحدة أن تمسك بزمام المبادرة، وتقود هذا التوجه، أو أن تلعب على الأقل دوراً كبيراً في تنظيم العملات الرقمية للبنوك المركزية.
رغم ذلك قد تكون مسألة إصدار البنوك المركزية عملات رقمية للتعاملات الكبيرة بين البنوك أمراً مطروحاً للنقاش، وقد أوضح تيموثي ماساد في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، وهو الرئيس الأسبق للجنة تداول السلع الآجلة، أن قرار ترامب لم يستهدف العملات الرقمية، التي تصدرها البنوك المركزية للتعاملات الكبيرة، وإنما تلك التي تستهدف الأفراد.
وقال: «لا أعتقد أنهم قلقون بشأن العملات الرقمية، التي تصدرها البنوك المركزية للتعاملات الكبيرة على وجه الخصوص، ففي النهاية تريد إدارة ترامب وجود هذه العملات».
وقال ستيف كيلي من برنامج الاستقرار المالي في جامعة «ييل»: «مثلما لا تغادر الاحتياطات جدران مجلس الاحتياطي الفيدرالي، بل تحول بين أصحاب الحسابات، كذلك ستكون العملات الرقمية التي تصدرها المصارف المركزية».
لذلك واعتباراً من الوقت الحالي سيتعلق مصير العملات الرقمية المُرمّزة للأفراد بما ستقرره شركات المدفوعات ومُصدري العملات المستقرة، ونتوقع أن يستمر الابتكار في الازدهار، لكن مقاومة إدارة ترامب وبطء وتيرة التغيير لدى الحكومات، خصوصاً فيما بينها، يعني أن الوقت ما زال بعيداً حتى يتوفر لدينا نظام مصرفي رقمي دولي، مزدوج المستويات، ومدعوم رسمياً.
إذن كيف ستمضي الأمور؟ لدينا توقع يستند إلى ما نعرفه بالفعل عن تاريخ الجهاز المصرفي.
ستواصل الأموال الرقمية الخاصة نموها حتى تقع أزمة كبيرة في واحد من الأوقات العصيبة، وستضطر الحكومات حينئذ إلى التدخل على نحو كبير، وسينبع من هذا التدخل، وبقليل من الحظ، نشوء نظام نقدي رقمي لائق.
على صعيد آخر تتطلع شركة ميتا إلى جمع 29 مليار دولار لتمويل توسعها الكامل في الذكاء الاصطناعي، وقد أحرزت الشركة المالكة لتطبيق إنستغرام تقدماً في مفاوضاتها مع مستثمرين في قطاع الائتمان الخاص، بينهم عدد من كبار الجهات الفاعلة مثل «أبوللو جلوبال مانجمنت»، و«كيه كيه آر»، و«بروكفيلد»، و«كارلايل»، و«بيمكو»، بحسب مصادر مطلعة على الأمر.
وتسعى ميتا إلى جمع 3 مليارات دولار من حقوق الملكية من هؤلاء المستثمرين، إلى جانب اقتراض 26 مليار دولار إضافية، إلا أنها لا تزال تناقش كيفية هيكلة هذه الزيادة الكبيرة في الديون.
وأضافت المصادر أن «ميتا» تدرس سبلاً، تتيح تداول هذه الديون بسهولة أكبر بمجرد إصدارها، وهو عامل أثاره عدد من المستثمرين المحتملين، الذين بحثوا تفاصيل الصفقة بالنظر إلى ضخامتها.
وقد فاجأنا ذلك بعض الشيء عند القراءة الأولى، لأنه غريب، فهناك مجال لجمع أحجام كبيرة من الديون القابلة للتداول وبأسعار تنافسية، ويقصد بذلك سوق سندات الشركات.
يمكن لهذه السوق أن تستوعب الكثير من ديون «ميتا»، التي تتمتع بوضع ائتماني ممتاز، إذ يبلغ صافي المركز النقدي للشركة 21 مليار دولار (بما في ذلك عقود الإيجار)، كما حققت «ميتا» تدفقات نقدية حرة بقيمة 50 مليار دولار خلال الـ 12 شهراً الفائتة، رغم إنفاقها 44 مليار دولار من النفقات الرأسمالية، ويتم تداول سنداتها المستحقة عام 2054 بعائد يقل نقطة مئوية واحدة عن سندات الخزانة الأمريكية لأجل 30 عاماً.
باختصار فالشركة تبدو أقل مديونية بصورة كبيرة يسهل معها إقراضها، وهي بعيدة كل البعد عن «إنتل»، المثقلة بالديون، وتحقق خسائر، وقد يقول أحدهم، إن إبرام «ميتا» لصفقة ذكية يمكن أن يجعلها تبدو وكأنها شركة تكنولوجية تقليدية ذات رأس مال قليل، وتستحق نسبة ربحية عالية على أسهمها (نسبة السعر إلى الربحية الآجلة لها الآن نحو 26)، لكن هذا غير صحيح، لأن «ميتا» لم تعد شركة منخفضة رأس المال، وهيكلة التمويل لن تغير شيئاً في نظر المستثمرين، أو على الأقل لا ينبغي أن تغير.
الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها فهم هذه الصفقة ليست من جانب طلب «ميتا» تمويلاً بالديون الخاصة، وإنما من حيث قدرة كبرى شركات إدارة الأصول على منح مثل هذا التمويل.
وقد تمكن مقدمو الائتمان الخاص من جمع تمويلات بمبالغ هائلة، وتشير تقديرات «ماكنزي» إلى نجاح مؤسسات الائتمان الخاص في جمع تمويلات تزيد على تريليون دولار خلال الأعوام الخمسة المنتهية عام 2024، وهناك أيضاً الكثير من رؤوس الأموال غير المستثمرة في الأسهم الخاصة، لذا ربما تلجأ «ميتا» إلى أمثال «أبوللو» و«كيه كيه آر»، ليس لذكائهما في هيكلة التمويل، وإنما لأنها رخيصة، كما أنه يمكن للمستثمرين معرفة ما يعنيه ذلك للعوائد المستقبلية لرأس المال.