من ينبغي له توصيل رسائل السياسات النقدية؟
(البيان)-07/11/2025
في جو النادي الريفي في سينترا بالبرتغال خلال الأسبوع الماضي، اجتمع كبار مسؤولي المصارف المركزية لتفسير سياساتهم النقدية بدلاً من التلميح إلى أي تغييرات وشيكة. ولم يكن هناك شك في أن هؤلاء هم الأشخاص المناسبون على توصيل رسائل السياسة النقدية للجمهور. ولا ينطوي قولي هذا على أي مبالغة أو غرور.
وقد دعا أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، بالفعل إلى التحلي بالتواضع، مشيراً إلى أن صانعي السياسة النقدية يتمتعون بسلطة حقيقية، وأن «الكثيرين يظنون أننا نفتقر إلى التواضع». وعند سؤاله عن شعوره وهو يتعرض للتوبيخ المستمر من الرئيس الأمريكي، تلقى رئيس الاحتياطي الفيدرالي جاي باول تصفيقاً حاراً عندما قال إنه «يركز فقط على أداء عمله» بطريقة غير سياسية. وقد كانت هذه الكلمات، التي قيلت بصدق وتواضع، محل إعجاب كبير. وقد استخدمها أيضاً في أبريل.
وبينما أخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التنفيس عن نوبة غضب على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن أخطار السياسة النقدية، إلا أن البيانات الأمريكية جاءت لتدعم الموقف الحذر الذي يتبناه باول. فسوق العمل التي شهدت تراجعاً ضئيلاً لمعدل البطالة إلى 4.1 % ليس بيئة تتطلب تخفيضات عاجلة في أسعار الفائدة.
وبالنظر إلى مؤشر «قاعدة سام»، الذي عادة ما يستخدم في تحديد بداية مرور الولايات المتحدة بالركود، نجد أنه سجل أدنى قراءة له منذ صيف عام 2023 في يونيو الماضي عند 0.17، أي ما يقل كثيراً عن المستوى الذي ينذر بوجود ركود.
إذن، فقد كان ذلك أسبوعاً جيداً بالنسبة لباول. لكنه لم يكن كذلك لبعض خبراء الاقتصاد. ولعل الخطأ الذي يرتكبونه بشكل متكرر هو استخدام منطقهم نفسه في تفسير معتقدات الرئيس الأمريكي المتصلة بالاقتصاد.
وفي الليلة السابقة لصدور بيانات الوظائف، استخدم ترامب وسائل التواصل الاجتماعي للهجوم على باول من جديد بسبب ما يعتبره بطئاً من جانبه في خفض الفائدة، مضيفاً أن «المتأخر جداً (باول) يجب أن يتقدم باستقالته فوراً».
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الرئيس ترامب يحصل على ملخص هذه الإحصاءات الاقتصادية المهمة في المساء قبل نشرها.
والاقتصاديون أكثر دراية من الوقوع في الخلط بين الارتباط والسببية، إلا أن عدداً ليس صغيراً منهم أشار إلى وجود علاقة بين بيانات الوظائف ومنشورات ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي المستقبل، سيكون من الأفضل ألا نقيم وزناً على وجه الخصوص لتوقيت محتوى منشورات ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي.
إذا كانت هذه هي القاعدة فيما يتعلق بترامب، فنحن حالياً بصدد تعلم أن القاعدة التي تسري على سكوت بيسنت، وزير الخزانة، في إيصال رسائله النقدية ستتغير أيضاً عما قريب. وإذا عدنا إلى فبراير، فأنذاك، ولدى حديثه عن الفيدرالي، تعهد بيسنت بـ«الحديث فقط عما فعلوه، لا عما يجدر بهم فعله». وذكر أن ترامب يرغب في خفض العائد على سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 أعوام وأنه «لا يدعو الفيدرالي إلى خفض الفائدة». لكن ثبتت حماقة هذه التصريحات بعد يوم واحد، حينما دعا ترامب الفيدرالي صراحة إلى فعل ذلك.
وحينما سئل في أبريل بشأن الاستقلالية النقدية للفيدرالي، أجاب بيسينت بأنها «صندوق مجوهرات ينبغي الحفاظ عليه». لكنه في أواخر الأسبوع الماضي قام بتحطيم هذه الجواهر. وفيما يتعلق باجتماع السياسة النقدية التالي للفيدرالي، قال بيسنت: «إذا كانوا يرغبون في اقتراف الخطأ بعدم خفض الفائدة، فلا بأس، لكنني أعتقد أنهم إن لم يخفضوا الفائدة، فربما سيكون خفضها في سبتمبر أكبر». ورفض استبعاد نفسه كمرشح لمنصب رئيس الفيدرالي، بينما لا يزال وزيراً للخزانة، وهو جمع بين وظيفتين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينظر إليه على أنه يحافظ على الاستقلالية النقدية.
ليس ذلك فحسب، بل رجح أن باول وغالبية أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة يضعون الجوانب السياسية في اعتبارهم بعدم تصويتهم لصالح خفض الفائدة. ولفت إلى وجود «تباين» كبير في التوقعات الشخصية لأعضاء اللجنة بشأن الفائدة، في إشارة إلى الاختلاف بين توقعات بسياسة نقدية مفرطة التيسير بين أعضاء اللجنة الذين عينهم ترامب وتقديرات أكثر تشدداً من الآخرين. وأنهى حديثه قائلاً: «سأترك لكم حرية تفسير هذا الأمر كما تشاؤون».
وأحد الأسباب الرئيسية لاجتماعات مسؤولي المصارف المركزية، هو مراجعة وتجربة سياساتهم الاقتصادية الحالية التي يطبقونها في العالم الحقيقي، ومقارنتها بأفضل الأفكار والنظريات الجديدة التي تأتي من الأكاديميين والباحثين في مجال الاقتصاد. وفي ضوء أهمية التواصل والمشكلات الموجودة في الولايات المتحدة، فلا عجب من فوز ألينا وابيتش من جامعة أوكسفورد بجائزة الخبير الاقتصادي الشاب التي يقدمها المركزي الأوروبي، بفضل ورقتها البحثية التي قدمتها في توقيت مثالي واستعرضت فيها مدى أهمية دور ناقل رسالة السياسة النقدية.
وتطرقت دراسة وابيتش إلى انتقال القيادة في المركزي الأوروبي خلال عام 2019 من ماريو دراجي إلى كريستين لاجارد، وفحصت ما إذا كان تغيير قيادة المصرف من إيطالي إلى فرنسية كان له تأثير على تلقي الجماهير لرسالة السياسة النقدية. وأظهرت البيانات المُستقاة من التغريدات والصحف، ازدياد الاهتمام بقرارات المركزي الأوروبي في فرنسا وانحساره في إيطاليا بعد تغيير القيادة، ما يعني أن الناس يستمعون أكثر إلى من هم من نفس جنسيتهم.
واستخدمت وابيتش نماذج لغوية كبيرة و8 ملايين تغريدة لمعرفة ما إذا تحلّى مستخدمو «تويتر» بنظرة أكثر إيجابية بشأن المركزي الأوروبي بعد أي اجتماع للسياسة النقدية، لقياس مدى استعداد مختلف الجنسيات إلى قبول لهجة المركزي.
وعند مقارنة التغريدات مع وجهة نظر الأوروبي العادي (والذي يبدو أنه ألماني في هذه الحالة)، فقد بدا الإيطاليون الذين نشروا تغريدات عن المركزي الأوروبي أكثر إيجابية بعد اجتماع السياسة النقدية، لكنهم صاروا أقل إيجابية بعد تولي لاجارد لرئاسة المركزي مقارنة بدراجي. وكان الفرنسيون يميلون إلى أن يكونوا متشككين وأن يشعروا بالإحباط مقارنة بالمتوسط، لكنهم شعروا بهذا الأمر بدرجة أقل في عهد لاجارد. وتشابهت وجهات نظر الإسبان مع الفرنسيين في هذا الأمر. وحسب ما ذكرته وابيتش، فـ«ناقل الرسالة مهم»، إذ تفضل الجماهير الاستماع إلى شخص يعرفونه مقارنة بشخص يبدو أجنبياً بالنسبة لهم.
والأمر ليس قاصراً على أوروبا فحسب. فقد عين المركزي الأسترالي مسؤولاً سابقاً لدى مصرف إنجلترا، وهو أندرو هاوسر، في منصب نائب المحافظ عام 2024. ولكونه أرستقراطياً، فسرعان ما أدرك هاوسر أن كثيرين في أستراليا لم تعجبهم الرسائل المتعلقة بالسياسة النقدية الصادرة عن شخص ينظر إليه على أنه ممثل لكيان استعماري سابق. ولعل وصف «متغطرس» كان واحداً من أكثر الأوصاف تهذيباً في التعليق على واحد من خطاباته، لكن ستيفن كونروي، وزير العمل السابق، وصفه بأنه «مقيت للغاية» و«متبجح».
لذلك، سيجد الغرباء صعوبة في تفسير القرارات الصعبة. وقد يحدث الأمر داخل الدولة نفسها أيضاً. وقد سلطت الضوء فيما سبق على بحث أمريكي، أظهر أن الديمقراطيين ينظرون للفيدرالي على أنه جهة تابعة للحزب الجمهوري، والعكس صحيح. والأسوأ من ذلك، فالناس يثقون في الفيدرالي عندما يعتبرونه «واحداً منا» وليس عندما يكون «واحداً منهم».
وبذلك، فإن منشورات ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي وتسييس بيسنت للاحتياطي الفيدرالي تجعله يبدو غريباً بالنسبة لنسبة كبيرة من الأمريكيين. ويؤدي نقص الدعم حتماً إلى جعل شرح الفروق الدقيقة في قرارات السياسة النقدية أكثر صعوبة، ما يضر بالمؤسسة.