«فايننشال تايمز»: ماذا لو فقد الاقتصاد العالمي مرساه النقدية؟
(القبس)-07/11/2025
في تحليل نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، يتناول الخبير الاقتصادي مارتن ساندبو التحديات المتصاعدة التي تهدد موقع الدولار كمحور أساسي للنظام النقدي العالمي. ويطرح تساؤلًا جوهريًا: إذا كانت هيمنة الدولار تترنح، فما البديل الذي يمكن أن يحل محله؟
يُشير ساندبو إلى أنه منذ أبريل الماضي، بدأ الدولار يتصرف بطريقة أقرب إلى سلوك عملات الأسواق الناشئة، لا كعملة احتياطية مستقرة، وهو ما دفع كثيرين من المستثمرين الدوليين إلى التفكير في التخلي عنه. وفي حال تحقق هذا الانفكاك، فإن العالم سيكون على أعتاب نظام نقدي جديد لم تتضح ملامحه بعد.
ويؤكد التحليل أن المخاطر المحدقة بمكانة الدولار باتت مفهومة على نطاق واسع، موصيًا بالرجوع إلى تحليل شارك فيه زميله مارتن وولف، إلى جانب الخبير الاقتصادي كينيث روجوف، الذي ناقش في أحدث كتبه مسار صعود الدولار وتراجعه المحتمل. ويرى روجوف أن العالم يتجه نحو تعددية نقدية، مؤكدًا: «لا يزال الدولار في الصدارة، لكنه سيفقد جزءًا كبيرًا من نفوذه. العالم سيعيد رسم مسارات تجارته وتمويله ليقلّص اعتماده على الدولار».
ويتابع ساندبو بالقول: «إذا فقد الاقتصاد العالمي مرساه الدولار، فما هو شكل النظام النقدي البديل؟ وما الآليات التي سيتم من خلالها تفكيك هذه الهيمنة تدريجيًا؟»، مشيرًا إلى أن الدولار لا يمثل فقط عملة احتياط، بل هو أداة مركزية في التسعير والتمويل وتداول العملات، ويمثل الركيزة الأساسية في خطوط المقايضة الطارئة بين البنوك المركزية.
وفي تصريحات مباشرة لـ«فايننشال تايمز»، يرى روجوف أن العالم يعيش اليوم أكبر نقطة تحول منذ «صدمة نيكسون» التي أنهت ارتباط الدولار بالذهب. ويضيف: «الدولار سيخسر حصة من سوقه لمصلحة اليوان أولًا، ثم اليورو. كما أن العملات الرقمية بدأت بالفعل تقتطع جزءًا من دوره في الاقتصاد غير الرسمي. هذا الاتجاه سبق إدارة ترامب، لكنه تسارع بشكل كبير في عهده».
نحو تعددية نقدية
يعتقد ساندبو أن العالم لا يتجه نحو بديل واحد وهيمنة جديدة، بل إلى ما يمكن تسميته بـ«نظام إقطاعي نقدي عالمي»، تتنافس فيه عملات مثل اليورو واليوان والعملات الرقمية، وربما الذهب، على النفوذ.
ويجد هذا التصور تأييدًا من الخبير داني ليبزيغر، الذي يتوقع أن تلجأ البنوك المركزية إلى تبني سلة عملات متنوعة بدلًا من الاعتماد الكامل على الدولار، وإن كانت ستظل ترصد عن كثب قرارات الاحتياطي الفدرالي الأمريكي.
تغيّرات الأسواق
يطرح ساندبو تساؤلًا محوريًا: كيف ستتأثر أسعار الفائدة واتجاهات الأسواق المالية في حال الانتقال من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب؟ ويستشهد برأي المؤرخ الاقتصادي باري آيشنغرين، الذي يؤكد أن غياب بديل موثوق للدولار قد يرفع كلفة المعاملات العابرة للحدود، ويقلص حجمها، بما قد يؤدي إلى تراجع مستويات العولمة ذاتها.
ويحذّر التحليل من أن هذه التداعيات لا تزال غير مستوعبة بالكامل: إذ إن أي تراجع في دور الدولار سيجعل كل مظاهر العولمة أكثر تكلفة.
وفي هذا السياق، يشير ساندبو إلى تحليل للخبير جان-بيير لاندو حول مفارقة نقص الأصول الآمنة في الأسواق، محذرًا من أن ذلك قد يؤدي إلى اضطرابات في التسعير، وارتفاع دائم في العوائد المطلوبة، مما يرفع من كلفة التمويل والسيولة، ويقوض جاذبية التمويل المقوّم بالدولار.
ويخلص التحليل إلى أن تراجع الدولار لن يكون جزئيًا أو محصورًا في مجال معين، بل سيمتد ليشمل وظائفه كافة، من الفوترة والتمويل، إلى التداول الدولي.
وفي استشراف للمستقبل، ينقل ساندبو عن روجوف قوله: «في عالم مقبل ذي ثلاثة أقطاب، سيبقى الدولار في القمة، ولكن بدرجات أقل، ما يحدّ من امتيازاته، ويرفع كلفته التمويلية، ويقلل فاعلية العقوبات الأمريكية المرتبطة به».
جدل السياسات المالية
وفيما يرى الخبير كارتك سانكاران أن نظام التعددية النقدية قد يجلب قدرًا أكبر من الاستقرار، حيث يتيح لكل منطقة صياغة سياساتها بما يتوافق مع ظروفها الخاصة، دون التقيّد بالدورات الاقتصادية الأمريكية، يبدي ساندبو تشككه، مشيرًا إلى أن تفوق الدولار التاريخي كان نتيجة كونه عملة موحدة ومرساه للنظام.
وفي جميع الأحوال، يتفق ساندبو مع لاندو على أن الضغوط ستتزايد على صناع السياسات المالية في مختلف الدول، لحماية اقتصاداتهم من تقلبات المرحلة الانتقالية، وقد يدفعهم ذلك إلى تقييد حركة رؤوس الأموال، وإعادة توجيه التدفقات المالية وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية.
بين النظام واللا نظام
يختم ساندبو تحليله بالتأكيد على أن النظام النقدي القادم لن يشبه ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل سيكون مزيجًا من التكنولوجيا والجغرافيا السياسية. وربما يشهد العالم ظهور «مناطق عملات رقمية» ترتكز على الربط الرقمي بدلًا من وحدة العملة.
ويحذّر من أن هذا المستقبل لا يبدو واعدًا لأحد؛ فحتى أكثر المنتقدين للعولمة المالية قد يجدون أنفسهم أمام نظام أقل استقرارًا وأكثر عرضة للتقلبات. وفي ظل غياب مرشح واضح لتحمل مسؤوليات الدولار، يبقى العالم في حالة ترقّب، بانتظار من يملأ الفراغ النقدي العالمي.
ويُذكّر ساندبو بكلمات الفيلسوف توماس هوبز قبل أربعة قرون: «الهيمنة، مهما كانت مثيرة للجدل، تظل أفضل من الفوضى.. على الأقل في النظام النقدي».