أعرق المسلّمات في عالم المال والأعمال باتت محل شك
(العربية)-14/07/2025
تلقيت دعوة من إذاعة بي بي سي أولستر للظهور على الهواء، وشرح ما يجري في الأسواق المالية للمستمعين.
وكان السؤال الأول: «حسناً، ما البورصة؟» (للأمانة، أنا حقاً أحب هذا النوع من الأسئلة، دون أي سخرية، إذ لا وجود لما يُسمى بالسؤال السخيف في عالم الأسواق المالية).
وخلال الحلقة، اتصل شخص يدعى غراهام لمشاركة رؤيته، التي يمكن تلخيصها بأنه مع عدم إلمامه بالتفاصيل الدقيقة لمآلات الرسوم الجمركية، فإنه يدرك حقيقة راسخة: عندما تهبط الأسهم الأمريكية، يجب انتهاز الفرصة للشراء، وهذا بالضبط ما كان يفعله.
وإذا لم تخني الذاكرة، كان ذلك وقت الغداء في لندن يوم 9 أبريل، حيث كانت الأسهم الأمريكية قد هبطت بنسبة 13 % خلال أيام معدودة، وكانت الأسواق العالمية تنزف بشدة.
لم أقل لغراهام حينها إنه على خطأ، لكني أوضحت – مع التأكيد على أنني لا أقدم، ولن أقدم أبداً نصائح استثمارية – أنه يتمتع بشجاعة تفوق شجاعتي.
فاستراتيجية «الشراء عند الهبوط»، هي بالفعل تكتيك مجرب ومختبر، وله سجل جيد من النجاح، غير أن الأوضاع في تلك اللحظة، وبعبارة لطيفة، لم تكن تبشر بالخير على الإطلاق.
جميعنا يعلم ما جرى سريعاً بعد ذلك، فقد تراجع ترامب عن موقفه، وارتفعت الأسهم بشكل صاروخي.
فإذا كان غراهام قد نفذ ما قاله بالفعل، وتحلى بالجرأة للشراء، كما بدا مصمماً، فإن استثماراته في الأسهم الأمريكية قد حققت مكاسب بنحو 25 % منذ حديثنا القصير. فكل التحية لك يا غراهام.
حتى بعد ذلك، لم أكن مقتنعة بزوال المخاطر. لذلك، فقد كتبت بعد أيام قليلة، أن مبررات «الشراء وقت الهبوط»، ما زالت في نظري هشة للغاية.
والنظرة بأثر رجعي دائماً ما تكون رائعة، خاصة في الأسواق، لكن في الواقع، تراجع ترامب حقاً عن موقفه، وهذا ما بدّل المشهد برمته.
فقد قفزت الأسهم الأمريكية، استناداً إلى قياس مؤشر «إس آند بي 500» للشركات الكبرى، لتسجل مستويات قياسية غير مسبوقة منذ مطلع العام الجاري.
في هذا السياق، يقول فينتشنزو فيدا المدير التنفيذي للاستثمار في مجموعة «دي دبليو إس»: «نشهد حالة انقسام واضحة، فبينما يرى الخبراء أن ما يحدث غير منطقي، يردّ المستثمرون الأفراد قائلين: لقد ظللتم تقولون لنا على مدى 10 سنوات أن نشتري عند الانخفاض، وهذا ما نفعله الآن». ومهما يكن من أمر، فقد أثبتت الأحداث صحة موقفهم.
لكن هذا أيضاً لا يعني أنني غيّرت رأيي كلياً، فمنذ تراجع الأسواق في أبريل الماضي، شرع العديد من المؤسسات الاستثمارية خارج الولايات المتحدة في إجراء مراجعة نقدية جديدة، وإعادة تقييم مدى انكشافها على السوق الأمريكية.
ويشكل هذا الأمر القضية الأكثر تداولاً بين المستثمرين المؤسسيين حالياً، وسيستغرق وقتاً طويلاً، قد يصل إلى سنوات، لتتبلور نتائجه بصورة كاملة.
وأسبوعياً، تصلني رسائل إلكترونية من كثيرين عبر بريد «هوت ميل»، يصفونني فيها بالحمقاء، أو كما عبّر أحد المراسلين اللطفاء مؤخراً، بأنني صاحبة «وجه غبي»، لأنني أشير إلى أن هذه الظاهرة حقيقية. ويزعمون أنه لا يوجد مدير أموال جاد، سيُقدم على بيع أسهمه وسنداته الأمريكية.
غير أن هذا ما زال تفسيراً مغلوطاً للوضع، فالقضية ليست أن كبار المستثمرين من غير المرجح أن يبيعوا الأصول الأمريكية بكميات كبيرة، بل السؤال هو ما إذا كانوا سيواصلون شراءها بالوتيرة التي اعتدنا عليها في عالم تستحوذ فيه الأسهم الأمريكية على نحو 70 % من مؤشرات الأسواق المتقدمة؟ فربما من كل جنيه إسترليني جديد يتدفق إلى شريحة الأسهم في معاشات التقاعد حالياً، لن نشهد توجه 70 بنساً نحو الولايات المتحدة بعد خمس سنوات، بل شيئاً أقرب إلى 65 أو حتى 60 بنساً.
وهذا يعني تدفقاً لحصة أكبر باتجاه آسيا وأوروبا – تلك الأسواق الأصغر حجماً بكثير، التي تجاهلها الكثير من المستثمرين العالميين لسنوات طويلة.
ولا غرابة، إذن، أن يتفوق العديد منها بشكل مريح على أداء الأسهم الأمريكية في عام 2025. فقد ارتفعت عدة مؤشرات أوروبية بأكثر من 20 % هذا العام.
وفي المقابل، وبالنسبة للمستثمرين الذين يتعاملون باليورو، فقد التهم الهبوط المتواصل للدولار أي مكاسب محققة، إذ ما زالوا يسجلون خسائر بنحو
6.5 % في الأسهم الأمريكية منذ بداية العام الجاري، محسوبة باليورو.
لذا، فإن أي مدير أصول خبير، لا يفكر في سبل تفادي هذه الخسائر، أو على الأقل التحوط ضدها، لا يقوم بواجبه المهني على الوجه الأكمل.
ولهذا السبب، تكتسب استراتيجيات التحوّط ضد ضعف العملة الأمريكية زخماً متزايداً عالمياً.
كما بدأ المستثمرون يتساءلون عن جدوى الاستثمار في الأسهم الأمريكية، التي تُعتبر مرتفعة الثمن أصلاً، في ظل التقلبات الشديدة التي تشهدها، والمخاطر السياسية المتزايدة في الولايات المتحدة.
لذلك، يؤكد طالب شيخ مدير المحافظ في مؤسسة «فيديليتي إنترناشيونال»، قائلاً: «يتعين علينا التحرر من العقلية التي لازمتنا طوال العقدين الماضيين»، مضيفاً: «لماذا لا يمكن لآسيا، باستثناء الصين واليابان، أن تشكل جزءاً أكبر من محفظتك الاستثمارية، مقارنة بالولايات المتحدة؟ لماذا لا يمكن لأوروبا أن تحظى بحصة أكبر؟ الصيحات تأتي وتذهب، لكنني أعتقد أن هذا التوجه يتمتع بقوة استمرارية أكبر».
لقد تلاشت غالبية الاضطرابات التي عصفت بالأسواق خلال الأشهر الأولى من عام 2025، بعدما دخلنا النصف الثاني من العام، وها هو غراهام يحتفل بنصر استثماري مستحق.
غير أن أعرق المسلمات واليقينيات في عالم المال والأعمال، تتصدع.