ما الذي أخطأ فيه العالم بشأن الرسوم الجمركية وتداعياتها؟
(البيان)-30/07/2025
مع مطلع هذا العام أجمع كبار المحللين والتنفيذيين والمستثمرين على فرضيّة واحدة: إذا مضى دونالد ترامب قدماً في سياسة الرسوم الجمركية، فسيقوى الدولار الأمريكي ويقع الاقتصاد في فخ «الركود التضخمي».
وقدر بعض الاقتصاديين أن كل زيادة بمقدار نقطة مئوية في متوسط التعرفة ستقتطع 0.1 نقطة من نموّ الناتج وتضيف مثلها إلى التضخّم.
لكن الوقائع جاءت أقلّ دراماتيكية بكثير، فرغم أنّ بعض المراقبين يرى في تهديدات ترامب مجرّد استعراض سياسي، ارتفع المعدّل الفعلي للتعرفة من 2.5 إلى 15 في المئة، وقفزت إيرادات الجمارك إلى أكثر من 300 مليار دولار سنوياً أي أربعة أضعاف مستواها قبل عام.
وعلى عكس التوقّعات القائلة إنّ تقليص الواردات سيقوّي الدولار تلقائياً بحكم «حسابات الدفتر»، سجّلت العملة أسوأ أداء في النصف الأوّل من العام منذ أوائل السبعينيات.
ويُعزى هذا التحوّل المفاجئ إلى حقيقة أن الدولار بدأ العام وهو في حالة مبالغة واضحة في قيمته.
وكان الأجانب حينها يمتلكون حصصاً ضخمة من الأصول المقوّمة بالدولار.
وفي الآونة الأخيرة، بدأوا التحوّط من هذه المخاطر وتوجيه استثماراتهم إلى خارج الولايات المتحدة.
وبات العديد من الدول الأخرى وجهات استثمارية أكثر جذباً، جزئياً لأن تهديدات ترامب الجمركية دفعتها إلى تسريع الإصلاحات الاقتصادية وإبرام اتفاقيات تجارية مع شركاء من خارج الولايات المتحدة.
يظل اللغز الأكبر هو: لماذا لم تظهر بعد الآثار «الركود التضخمي» المتوقعة للرسوم الجمركية في البيانات الاقتصادية الإجمالية؟ وهل تتمتع الولايات المتحدة حقاً بـ«وجبة مجانية»، عبر جني 300 مليار دولار سنوياً من عائدات الرسوم، من دون أن تعاني من الأوجاع الاقتصادية المتوقعة؟
بحسب بعض التقديرات، فإن المصدّرين الأجانب يتحملون فعلاً نحو 20% من تكاليف الرسوم، وهي حصة أكبر بكثير مما كانوا يتحملونه خلال الولاية الأولى لترامب. أما الـ80% المتبقية، فيجري تحمّلها مناصفة تقريباً بين الشركات الأمريكية والمستهلكين.
والراجح أن الأثر الاقتصادي السلبي للرسوم يُعادله حالياً مفعول قوى أخرى معاكسة، بما في ذلك الهوس بالذكاء الاصطناعي وتقديم المزيد من التحفيز الحكومي.
ومنذ يناير، ارتفعت تقديرات الإنفاق المتوقع من قِبل شركات التكنولوجيا الكبرى على تطوير بنى تحتية للذكاء الاصطناعي لهذا العام بمقدار 60 مليار دولار، لتقارب 350 مليار دولار.
كما تسرع الشركات الصغيرة خطاها للحاق بالموجة، مما يعزز النمو الاقتصادي أكثر وأكثر.
وقد ساهم هذا الزخم في تبديد المخاوف من أن تؤدي حالة عدم اليقين بشأن السياسات التجارية إلى كبح «روح المبادرة» وتجميد الاستثمارات الرأسمالية الجديدة.
كذلك، فإن موجة التفاؤل المرتبطة بالذكاء الاصطناعي تدعم النمو من خلال إبقاء الأوضاع المالية مرنة، رغم ارتفاع معدلات الفائدة.
وبحسب مؤشر جديد صادر عن مجلس الاحتياطي الفيدرالي، فإنه لولا صعود سوق الأسهم، الذي تغذيه أسهم الذكاء الاصطناعي، لكانت الأوضاع المالية أقرب إلى «الحياد» لا إلى التيسير.
وفي الوقت ذاته، فإن الوعد بإعفاءات ضريبية يُسهّل على الشركات الأمريكية استيعاب حصة أكبر من التكاليف الجمركية، بدلاً من تمريرها بالكامل إلى المستهلكين.
ويُتوقع أن يُوفّر مشروع ترامب الضريبي، المُسمّى «مشروع القانون الكبير والجميل»، ما يقرب من 100 مليار دولار من التكاليف الضريبية على الشركات هذا العام، وأكثر من ذلك في عام 2026، من خلال حوافز وإعفاءات ضريبية موسّعة.
كل ذلك لا يعني أن الرسوم الجمركية تخلو من آثار سلبية على الاقتصاد.
وفي الواقع، بدأت التكاليف تظهر بالفعل من خلال ارتفاع أسعار بعض السلع الرئيسة مثل الأجهزة المنزلية الكبيرة، والسلع الرياضية، والألعاب.
ومع ذلك، لا تزال معدلات التضخم العامة تحت السيطرة، وهذا بفضل تراجع الإيجارات وأسعار أنواع أخرى من السلع، بما في ذلك السيارات المستعملة ومصادر الطاقة.
وهذه التراجعات لا علاقة لها بالرسوم الجمركية؛ فأسعار السيارات المستعملة مثلاً ما زالت تنخفض عن مستوياتها المرتفعة التي بلغتها بفعل اضطرابات سلاسل التوريد خلال الجائحة.
لذلك، لم يكن الاقتصاديون مخطئين تماماً بشأن تأثير الرسوم الجمركية. ولا يزال احتمال حدوث ركود تضخمي قائماً، وخصوصاً إذا استمر ارتفاع متوسط معدل الرسوم الفعلي.
لكن حتى الآن، لم يكن هذا الارتفاع كافياً لتقويض العوامل الأكبر التي تواصل دعم النمو وكبح التضخم.
عموماً، يمكن القول إن ما نشهده اليوم هو تكرار لما حدث في عام 2023، حين توقّع كثيرون أن تؤدي صدمة كبرى، تمثّلت آنذاك في رفع الفيدرالي لمعدلات الفائدة، إلى تباطؤ حاد في نمو الاقتصاد الأمريكي.
لكن ذلك التأثير جرى امتصاصه بفعل الطفرة في الإنفاق على الذكاء الاصطناعي، والقدرة اللافتة للحكومة الأمريكية على الاستمرار في ضخ الدعم المالي دون انقطاع تقريباً.
والخطأ الذي وقع فيه العالم، آنذاك كما اليوم، يبدأ من الأطر الذهنية التي يعتمدها في التحليل.
فالخطأ التقليدي القائم على استخدام نماذج مبسّطة، تفترض أن المُدخل «أ» يقود بشكل مباشر إلى النتيجة «ب» -تفاقم بفعل الهوس العالمي بشخص دونالد ترامب، إذ أصبح هو العامل الوحيد الذي يهتم الجميع بتحليله، غير أن الاقتصادات المعقّدة نادراً ما تتشكّل بفعل عامل واحد فقط – حتى وإن كان هذا العامل صدمة كبرى بحجم تعريفات ترامب الجمركية.