لماذا ظلت الأسواق المالية هادئة رغم كل ما يحيطها من ضجيج؟
(البيان)-31/07/2025
من المفترض أن تهتز الأسواق عند وقوع صدمات سياسية أو اقتصادية، مثل المفاجآت المتعلقة بالرسوم الجمركية أو التوترات الجيوسياسية، ويتوقع نظرياً أن ترتفع أسعار المشتقات المالية المستخدمة للتحوط من التخلف عن السداد، وأن تتسع الفجوة بين معدلات الفائدة على أدوات الدين ومؤشراتها المرجعية.
ومع ذلك، فخلال عام 2025، ومهما ازدادت حدة العناوين، ظل الهدوء يسيطر على مؤشرات المخاطر في الأسواق.
صحيح، قد يكون هناك بعض التقلبات في الأفق، إلا أن التوقعات المرتبطة بالتقلب، كما تعكسها أسعار عقود الخيارات، تتراجع منذ عامين متتاليين.
كذلك، أصبحت العوائد الإضافية المقدمة للمستثمرين كحافز للاكتتاب في إصدارات السندات الجديدة عند مستويات مماثلة لما كانت عليه قبل الجائحة.
أما المؤشرات الأساسية لتكلفة مبادلات التخلف عن السداد – وهي أشبه بالتأمين ضد التعثر – فقد اقتربت من أدنى مستوياتها التاريخية. فلماذا إذن لا تعكس تسعيرات السوق حجم القلق السائد؟
السبب هو أن الاقتصاد الأمريكي بات بوضوح أحد أكثر اقتصادات العالم مقاومة للصدمات.
وهذه المرونة لا تدعم أسواق الأسهم فحسب، بل تتيح أيضاً للمستثمرين فرصة جيدة لتأمين دخل مرتفع من السندات الممتازة ذات التصنيف العالي، والتي تستخدم ركيزة دفاعية إلى جانب الأصول الأكثر مخاطرة.
ويشكل قطاع الخدمات الآن 81% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي و69% من الإنفاق الاستهلاكي، ارتفاعاً من 38% في أربعينيات القرن الماضي.
وعلى مدار عقود، لم ينكمش استهلاك الخدمات الحقيقي على أساس سنوي سوى مرتين: عام 2009 وعام 2020.
وكلما ارتفعت حصة الخدمات، ازداد استقرار الدورة الاقتصادية. كما ساهمت سلاسل الإمداد الرقمية وسوق العمل المرن في تقليص مخاطر التعثر وتقلبات الأرباح.
وبالنسبة للأسر الأمريكية، فقد أصبحت في وضع مالي أقوى، إذ إن نسبة الدين إلى صافي الثروة باتت قريبة من أدنى مستوياتها التاريخية، وأقل بـ50% من ذروتها في عام 2008. ويبلغ صافي الثروة حالياً 7.6 أضعاف الدخل القابل للتصرف، وهو أعلى من أي مستوى تم تسجيله قبل الجائحة.
كما أن إجمالي تكاليف الفائدة على الأسر تقل عن 10% من الدخل، وهو أدنى مستوى مسجل قبل الجائحة.
ويبلغ متوسط سعر الفائدة على الرهون العقارية القائمة حالياً 4.05% فقط، ما يبقي مدفوعات الفائدة عند 4% من دخل الأسر.
وفي الوقت ذاته، يملك الأمريكيون حالياً أكبر قدر من حقوق الملكية العقارية في منازلهم في التاريخ.
وتعكس ميزانيات الشركات هذه الصورة ذاتها. فقد أمضى مصدرو السندات ذات التصنيف الاستثماري العقد الماضي في إطالة آجال ديونهم وتكديس السيولة.
وانخفضت نسب المديونية لدى الأسر والشركات بأكثر من 30% مقارنة بذروتها خلال الأزمة المالية العالمية، بينما تبلغ هوامش الأرباح حالياً 13.8%، أي أعلى من أي مستوى مسجل قبل الجائحة.
وفي ظل غياب أي اختلالات هيكلية في الميزانيات، لا تنشأ موجات خفض المديونية القسرية – وهي النوع الذي يثير التقلبات – من الأساس.
وتحوز الأسر أصولاً مالية بقيمة 129 تريليون دولار، نصفها تقريباً في أدوات تحقق عوائد تتجاوز 4%، ما يجعل الحاجة إلى إعادة الاستثمار دافعاً ذاتياً متكرراً.
وهذا السعي المستمر وراء العائد يولد طلباً دائماً على السندات والأصول المهيكلة. وفي ظل احتفاظ المتعاملين بكميات محدودة من الأصول، تنكمش الهوامش في التداول، وتنخفض تقلبات الأسعار.
ورغم حالة الذعر التي أثارتها الرسوم الجمركية مطلع هذا العام، فإن أثرها سرعان ما تلاشى على حد كبير. صحيح أن الفوارق بين معدلات العائد محدودة، إلا أن العوائد نفسها ليست كذلك.
فعائدات سندات الخزانة لا تزال أعلى من 4%، بينما انخفض معدل التضخم إلى ما يزيد قليلاً على 2%.
أما العوائد الحقيقية، بعد احتساب أثر التضخم، فهي الأعلى منذ 15 عاماً على الأقل.
ويتيح الاستثمار في محفظة متنوعة من سندات من الدرجة A حالياً تحقيق دخل يتراوح بين 6 و7%، مع تقلبات سعرية لا تتجاوز نحو 3%.
وتضيف الأصول المهيكلة والائتمان الخاص عوائد مشابهة لأسواق الأسهم، لكن بمستويات خسارة أقرب إلى أدوات الدين ذات التصنيف الاستثماري.
ومع استخدام مدروس لعقود الخيارات، يمكن لعوائد الدخل الثابت أن تقترب بشكل معقول من خانة الأرقام الأحادية المرتفعة، من دون الحاجة إلى مطاردة السندات الرديئة بحثاً عن عائد أعلى.
والأهم أن مثل هذه العوائد تمثل ركيزة أساسية للمحافظ الاستثمارية اليوم، وليست مجرد إضافة تكميلية.
في الوقت ذاته، تشهد قطاعات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، والروبوتات، وغير ذلك من التقنيات المعززة للإنتاجية، تطورات كبرى تفتح آفاقاً استثنائية أمام أسواق الأسهم. ورغم أن التقييمات تبدو مرتفعة، إلا أن تدفقات الأرباح النقدية تواصل تجاوز التوقعات.
وفي ظل المستويات القياسية للسيولة في صناديق أسواق المال، وعمليات إعادة شراء الأسهم من قبل الشركات، وشح الطروحات العامة الأولية، لا تزال وتيرة الطلب تتفوق على المعروض.
وتعد أي تراجعات في السوق بمثابة دعوة لإعادة بناء المراكز، سواء في شركات التكنولوجيا الرائدة أم في الشركات الراسخة التي تولد تدفقات نقدية قوية.
إن الأسواق لا تتجاهل المخاطر، بل تسعّر نظاماً صمم لامتصاصها؛ ففي ظل اقتصاد قائم على الخدمات، وميزانيات قوية، وقاعدة مستثمرين مفعمة بالسيولة، تبرز بقوة معادلة مزدوجة: نمو اقتصادي مرن، وعوائد مرتفعة من أدوات الدخل الثابت.
لذلك، على المستثمرين أن ينتهزوا هذه الفرصة: الحفاظ على التعرض للأسهم للاستفادة من نمو الأرباح المستدام، وتوجيه حيازات السندات نحو الشريحة الأعلى جودة، وتعزيز التوزيع بأصول غير مترابطة مثل العقارات، والاستثمارات الخاصة، بل وحتى تخصيص مدروس للعملات المشفرة.
وإذا ما أديرت المحافظ بذكاء، يمكن أن تحقق معدلات نمو تراكمية في خانة الأرقام الأحادية المرتفعة، حتى إذا سيطرت الاضطرابات الجيوسياسية على العناوين.
وهكذا، فإنه حتى الآن في عام 2025، يأتي أعلى الضجيج من العناوين الرئيسية، وليس من قاعات التداول.