تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية يهدد حياة الملايين حول العالم
(البيان)-06/08/2025
يستعيد بونغي نكوسي ذكريات التداعيات المدمرة التي خلفها وباء الإيدز، قائلاً: «لقد ترعرعتُ في بلد كان الأطفال فيه يربون الأطفال»، في إشارة إلى تسعينيات القرن الماضي، حين بدا وكأن كل طفل في دولة إسواتيني قد فقد والديه.
في ذلك الوقت، الذي كانت تعرف فيه البلاد باسم سوازيلاند، انهار متوسط العمر المتوقع مع تفشي وباء الإيدز في أرجاء الدولة الصغيرة الواقعة جنوبي أفريقيا.
وبحلول عام 2005، تراجع متوسط العمر من 62 عاماً إلى 44 فقط، بعدما أصيب نحو 40% من البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و49 عاماً بالفيروس، وهو أعلى معدل إصابة سجل عالمياً.
كان فيروس نقص المناعة المكتسبة الذي يتسبب بمرض الإيدز آنذاك بمثابة حكم بالإعدام، إذ رغم أن استخدام الأدوية المضادة للفيروسات في الولايات المتحدة بدأ في أواخر الثمانينيات، إلا أن هذه العلاجات لم تصل إلى دول مثل إسواتيني إلا بعد أكثر من 15 عاماً. ومن لم يكن بمقدورهم تحمل تكلفة الأدوية الغربية الباهظة، التهم المرض أجسادهم بلا رحمة، مدمراً جهازهم المناعي وجاعلاً إياهم فريسة سهلة لأمراض انتهازية، مثل السل.
من جانبها، تقول إكو نومسا فاندروال، الطبيبة المساعدة الأمريكية التي توجهت إلى إسواتيني قبل 20 عاماً صحبة زوجها الطبيب: «كان الناس يموتون في كل منزل ندخله حرفياً في عام 2004».
وقد اعتادت فاندروال وغيرها من أعضاء الكادر الطبي إجراء فحوصات يومياً للمواطنين لتكشف عن إصابة 250 منهم بالإيدز، فيما لم يكن معهم سوى خمس جرعات علاجية.
بدأت الأمور بعد ذلك تتغير، وكان ذلك حينما وصلت خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز إلى البلاد التي يسكنها 1.2 مليون نسمة. وكانت هذه الخطة هي التي أطلقها الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش قبل ذلك بعامين.
وبذلك، صار لدى الذين أثبتت الفحوصات إيجابية إصابتهم بالإيدز أمل، فقد أصبحوا مؤهلين للحصول على مجموعة من الأدوية التي سمحت لهم بالتمتع بحياة طبيعية وقللت من احتمالات نقلهم العدوى لآخرين.
وأعقب ذلك انخفاض كبير في عدد الإصابات الجديدة بالفيروس، وعاد متوسط العمر المتوقع للارتفاع إلى 64 عاماً.
ويرى جون نكينغاسونغ، عالم الفيروسات الأمريكي ذو الأصل الكاميروني الذي تولى منصب المنسق العالمي لمبادرة مكافحة الإيدز المسؤول عن خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الفيروس أثناء تولي إدارة بايدن لزمام الأمور، أن كبح جماح وباء الإيدز عالمياً يعد واحداً من أكثر الإنجازات الإنسانية إبهاراً وروعة.
وتابع، في سياق حديثه عن ضخ قرابة 120 مليار دولار أمريكي بموجب خطة الرئيس منذ عام 2003: «لم نكن لنتمكن من السيطرة على منحنى الإصابات بفيروس الإيدز من دون هذه القيادة الأمريكية.
لذلك، من حق الأمريكيين أن يشعروا بالفخر لهذا الإنجاز في مواجهة واحدة من أكبر التحديات الصحية التي واجهت العالم».
هذه القيادة، وكذلك السيطرة على فيروس الإيدز، باتت الآن محل شكوك قوية في الوقت الراهن، فقبل ستة أشهر، فكك إيلون ماسك، الذي كان حينها مسؤولاً عما يدعى بإدارة الكفاءة الحكومية، الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي اعتبرت الأداة الأساسية التي استخدمتها الولايات المتحدة في تقديم المساعدات إلى الخارج.
وبدأ بالفعل ظهور تداعيات انسحاب الخبرات الأمريكية والأموال، فقد توقف موظفو الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية البالغ عددهم 10.000 موظف عن العمل، وتم إلغاء 80% من البرامج التي كانت الوكالة تتولى إدارتها، فيما تتولى وزارة الخارجية إدارة قرابة 1.000 برنامج متبق.
ويحاول الآن أعضاء في الكونغرس الأمريكي إنقاذ خطة الرئيس للإغاثة من الإيدز، والتي تتعرض بالفعل لتخفيضات كبيرة في الإنفاق، للحفاظ على سلامة الملايين الذين يتلقون بالفعل علاجات الإيدز في الوقت الراهن.
ومع ذلك، فقد توقفت بالفعل العديد من الخدمات المتنوعة التي تستهدف كبح انتشار فيروس الإيدز، ما يعزز احتمالات نشوب موجة أخرى من حالات العدوى.
وبخلاف الإيدز، فقد تجمدت مشروعات أخرى تهتم بالصحة العامة مثل مكافحة الملاريا، وشلل الأطفال، وتطعيمات الأطفال، وحتى المعونات الغذائية الطارئة، سواء في أفريقيا، أم آسيا، أم أمريكا اللاتينية.
وتتكدس المواد الغذائية والأدوية الآن في مخازن، فيما تهدد الولايات المتحدة بإعدام وسائل منع حمل غير مستعملة تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، بينما يحزم موظفو الإغاثة أمتعتهم، آسفين، استعداداً للعودة إلى بلادهم.
وفي الشهر الماضي، نشرت مجلة «ذا لانسيت» ورقة بحثية شكلت صدمة حتى للمخضرمين الأمريكيين في مجال المساعدات الذين اعتادوا الدفاع عن أنفسهم في مواجهة اتهامات بإهدار أموال دافعي الضرائب أو أنهم تحركهم دوافع ليبرالية غير منسجمة مع الأمريكيين.
وكان ماسك قد وصف الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بأنها «عش أفاع من الماركسيين الراديكاليين الذين يكرهون الولايات المتحدة».
وكشفت ورقة بحثية نشرتها مجلة «ذا لانسيت»، عن أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أسهمت بين عامي 2001 و2021 في إنقاذ قرابة 92 مليون شخص.
وتتوقع الورقة وفاة 12 مليون شخص خلال الأعوام الخمسة التي تنتهي بعام 2030، ما لم تتراجع السلطات الأمريكية عن قرارها بشأن الخفض المفاجئ للتمويل. ووصفت الورقة هذا الرقم بأنه «عدد صادم لحالات الوفاة التي يمكن تجنبها».
ومن بين 92 مليون حياة أنقذتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وجدت الورقة البحثية أن 25.5 مليون شخص كانوا ليلاقوا حتفهم بسبب الإيدز، وكان ليموت 8 ملايين شخص نتيجة الملاريا وغالبيتهم من الأطفال، بجانب نحو 9 ملايين شخص جراء الأمراض الاستوائية.
كما أنقذت الوكالة، بحسب الورقة، أرواح ملايين الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 5 أعوام من حالات عدوى قاتلة بسبب الإسهال.
المعضلة الكبرى هي أن الولايات المتحدة ليست الجهة المانحة الوحيدة التي خفضت المساعدات، فقد اتخذت بلدان أخرى إجراءات مماثلة لتلك التي قامت بها إدارة ترامب لخفض الموازنات، تشمل المملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا.
وفي الشهر الماضي، أعلنت الأمم المتحدة خفضها لعملياتها الإنسانية بصورة كبيرة في أعقاب ما وصفته «تخفيضات التمويل الأكبر على الإطلاق، والأكثر تأثيراً على القطاع الإنساني الدولي».
وقالت ماري لويس إيغلتون، ممثلة «يونيسيف» في إسواتيني: إن التأثير المحتمل جراء التخفيضات في تمويلات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية «سيكون مروعاً»، متوقعة أنه «لن تكون هناك أي علاجات على الرفوف بحلول نوفمبر»، في إشارة إلى الأدوية ومنتجات الألبان العلاجية للأطفال الذين يعانون سوء التغذية. وأسهبت: «يعني هذا باختصار أن الناس سيموتون».
وتعد إسواتيني صغيرة الحجم، وهي المملكة الوحيدة المتبقية في القارة الأفريقية، مكاناً مناسباً يمكن البدء منه في فحص التداعيات المحتملة الناجمة عن خفض المساعدات.
واستناداً إلى المعايير، فإسواتيني، الدولة ذات متوسط دخل من الشريحة الدنيا مع بلوغ نصيب الفرد من ناتجها المحلي الإجمالي قرابة 4.000 دولار، ليست دولة فقيرة يائسة.
وفي ضوء تخصيصها 7% من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق على الصحة، فهي بذلك تنفق عليها بصورة تتفوق بكثير على العديد من الدول الأخرى.
لكن رغم ذلك، يعج القطاع الصحي في إسواتيني بالمشكلات، بما في ذلك النقص المزمن في الأدوية الأساسية التي تجعلها تعتمد على المساعدات الأجنبية بصورة أكبر مما ينبغي.
وحينما زارت صحيفة «فاينانشال تايمز» البلاد في يوليو، كان المستشفى الأساسي في العاصمة مبابان مغلقاً بسبب إضراب الموظفين الذين قالوا إنه لا جدوى من قبول مرضى جدد في منشأة صحية نفدت فيها الأدوية الأساسية.
وغالباً ما تكون مستلزمات المستشفى، مثل القساطر، والأنابيب الوريدية، والضمادات، والبراغي الجراحية، غير متوفرة، ما يجبر المرضى على شرائها من صيدليات خاصة تكون كل هذه الأشياء متوفرة فيها بكثرة بطريقة غامضة. وتوصل تحقيق حول المشكلات في عام 2023، إلى أن إجراءات الشراء كانت حافلة بوقائع فساد.