الشعبوية الاقتصادية وصفة مؤكدة للديون والانكماش
(البيان)-26/08/2025
لسنا بحاجة إلى كثير من الجهد لملاحظة الحملة المتصاعدة التي يقودها الرئيس دونالد ترامب للهيمنة على مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي)، وضغوطه الواضحة عليه حتى يضع إدارة الدين الحكومي على رأس أولوياته.
من هنا، أجد من الضروري أن أركز في هذه السطور على المد الشعبوي الراهن: ماذا يخبرنا التاريخ عن النمو الاقتصادي في ظل الحكومات الشعبوية؟ وما الذي يتعين على الدول التي لم تقع بعد في هذا الفخ أن تركز عليه لمواجهة هذا المد المتسارع؟
تؤكد المؤشرات أن موجة الشعبوية آخذة في التوسع عالمياً، فقد أوضحت دراسة شاملة تغطي الفترة منذ عام 1900 أن نحو ربع الدول (من أصل عينة تضم 60 دولة) تُدار من قِبل زعماء شعبويين، سواء من التيار اليميني أو اليساري.
واستخدم مؤلفو هذه الدراسة تعريفاً محدداً وإن كان واسعاً للشعبوية، بوصفها الأسلوب السياسي الذي يركز على «الشعب» في مواجهة «المؤسسة» أو «النخبة».
وتختلف تعريفات الكلمة على اختلاف البحوث بطبيعة الحال. لذلك، تتباين نتائج هذه البحوث بدورها. لكن الاتجاه الصاعد الذي نعيشه اليوم ثابت وواضح على اختلاف المنهجيات.
وتخوض الأحزاب الشعبوية منافسة محتدمة مع الحكومات في الكثير من الدول الأخرى، مثل المملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا.
ويشعر قادة «المؤسسة» بالذعر بسبب ذلك، ما يدفعهم إلى تبني سياسات هذه الأحزاب وخطابها، ويعد رئيس الوزراء البريطاني عن حزب العمل، السير كير ستارمر، مثالاً على ذلك، وخاصة في حديثه المتشدد تجاه قضية الهجرة، والذي تضمن تصريحه بأن المملكة المتحدة تواجه خطر أن تصبح «جزيرة الغرباء». لذا، يمكن للشعبويين أن تكون بأيديهم سلطة هائلة، حتى وإن لم يشغلوا مناصب حكومية.
لكن ماذا عن العواقب الاقتصادية؟ من الواضح أن الشعبوية لا تأتي إلا بنتائج اقتصادية سيئة حقاً، وتفضي إلى الديون والانكماش الاقتصادي.
وتتعرض الدراسة الشاملة السالف ذكرها، والتي نشرتها مجلة «أمريكان إكونوميك ريفيو» من جانب ثلاثة من خبراء الاقتصاد في معهد كيل، بالتحليل لكيفية تأثّر الجوانب الاقتصادية بالشعبويين في السلطة.
وتوصلت الدراسة إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد بأكثر من 10% بعد 15 عاماً من القيادة الشعبوية مقارنة بوضع مغاير معقول وغير شعبوي.
الأهم من ذلك، أن الاقتصادات التي يقودها الشعبويون تقع فريسة لهذه السياسات على نطاق واسع، بغض الطرف عما إن كانت الحكومة يسارية أو يمينية، أو كانت في أوروبا أو أمريكا الجنوبية.
لكن لماذا تتسبب الشعبوية بمثل هذه الأضرار الاقتصادية الكبيرة؟ تُعد الحمائية التجارية، والديون وانحسار استقلال القضاء، من بين الأسباب وراء ذلك، وهي أسباب تمر بها الولايات المتحدة كلها في عهد ترامب خلال العام الجاري.
ومما يزيد الأمور سوءاً أن التكاليف الاقتصادية لا تقود في الغالب إلى ابتعاد الناخبين عن الشعبوية.
وبدلاً من ذلك، يُعد القادة الشعبويون أكثر ترجيحاً أن يمكثوا في مناصبهم لفترتين أو أكثر من ذلك، وعادة ما يقضون مدداً أطول مقارنة بنظرائهم غير الشعبويين، ويكون ذلك لمدة ثمانية أعوام مقابل أربعة في المتوسط لغير الشعبويين.
وتميل الشعبوية أيضاً إلى أن تكون متسلسلة، فوفق ما جاء عن مؤلفي الدراسة: من المُرجح أن تشهد الدولة فترة قيادة شعبوية إضافية إذا ما انتخبت أول مرة.
ولذلك، فإن احتمالية استمرار ترسّخ الشعبوية في الولايات المتحدة تبدو مرتفعة.
وليس ذلك فحسب، بل ربما تكون الاحتمالات أكبر من ذلك، عند الوضع في الاعتبار نزعة ترامب لتجاوز حدود السلطة التنفيذية، مثل إرساله الجنود إلى كل من لوس أنغلوس وواشنطن، إضافة إلى إشاراته المتكررة بشأن الترشّح للرئاسة في عام 2028.
وبالنسبة للقادة التقليديين، يُعد السؤال عن كيفية كبح جماح هذا المد المتصاعد سؤالاً وجودياً.
وربما لا يتوفر لهم الكثير من الوقت، ولنا في حزب إصلاح المملكة المتحدة الذي يتزعمه نايغل فاراج مثال على ذلك، وهو الذي يحتل الصدارة في استطلاعات الرأي منذ شهر أبريل الماضي.
وهناك العديد من التفسيرات وراء صعود الشعبوية والتي يمكن سردها في هيئة نصائح كما يلي:
أولاً: لا تتقشفوا، فقد أظهرت دراسة مهمة أُجريت في عام 2019 أن الإصلاحات المدفوعة بالتقشف والتي بدأت تحت إدارة الحكومة الائتلافية في المملكة المتحدة من الأكثر ترجيحاً في التسبب في «بريكست»، أو على الأقل هناك ارتباط قوي بين انكشاف الأفراد على الإصلاحات التي شهدها العِقد الماضي وأنماط التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ثانياً: تجنبوا الوقوع في أزمات مالية، فقد كان التغير النسبي للبطالة داخل المناطق المختلفة في بريطانيا قبل الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وبعدها مؤشراً قوياً إلى دعم هذه المناطق لـ«بريكست» من عدمه.
ويسلط أحد التفسيرات لصعود الشعبوية المعاصرة، الضوء على الضعف الاقتصادي المحلي والأماكن «المنسية».
وقد توصلت الأبحاث إلى أن نمو الدخل الحقيقي منذ عام 2020 في الولايات المتحدة كان عاملاً قوياً بالنسبة للولايات للتحول نحو انتخاب ترامب بين 2020 و2024. ولذلك، شهدت المدن ذات النمو الأبطأ تحوّلاً أكبر نحو انتخاب ترامب.
وعلى النقيض، لم أجد أي ارتباط بين التحوّل نحو انتخاب ترامب والتضخم، وهو ما كان يُروّج له على نطاق واسع كونه عاملاً مهماً في تحليلات ما بعد الانتخابات.
وأشار عالم الجغرافيا الاقتصادية، أندريس رودريغيز-بوز، إلى أن السياسات الموجهة لأماكن محددة بإمكانها أن تعاكس ما أسماه «نفسية التدهور»، أو بعبارة أخرى، من المهم وجود تدابير مُصممة لمناطق بعينها، مثل الاستثمارات المُوجهة للمجتمعات المحلية.
وذهبت دراسة حديثة، إلى أن مدفوعات صندوق التنمية الإقليمية الأوروبي قللت من حصة التصويت للأحزاب الشعبوية اليمينية على نحو بالغ. كما أظهرت دراسة أخرى شملت البلديات الإيطالية نتيجة مشابهة مُفادها أن توفر الأموال كان يؤدي إلى انحسار كبير للشعبوية.
لكن تواجه مثل هذه السياسات صعوبات جوهرية. ويرى الخبير الاقتصادي، ثييمو فيتزر: «يتطلب كل سياق محلي حلاً مختلفاً». وفي هذا السياق، تميل الحكومات المركزية إلى تقييم الاحتياجات الخاصة بكل منطقة.
كذلك، يتعين على صانعي السياسات الساعين إلى كبح جماح الشعبوية أن يتعلموا من أخطاء الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، فقد أفضت قوانين الإنفاق التي وقّعها إلى تدفق قدر أكبر كثيراً من الأموال إلى مناطق ساخطة على قيادة الجمهوريين، غير أن هذه المشروعات ربما لم تنل حظاً وافراً من الترويج، لذلك لم تكن ملحوظة بما يكفي.
ويمكن النظر إلى هذا الأمر باعتباره النصيحة الأخيرة في كتيب كيفية مواجهة الشعبوية، وهو التواصل، حيث يعد التواصل أداة لا تحظى بالتقدير ولا تُستخدم بالقدر الكافي في أوساط الساسة التقليديين، لكنها محورية بالنسبة للشعبويين.
ومن شأن التواصل القوي من جانب شخص معتدل ومُقنِع ويملك ما يكفي من الكاريزما أن يربك كثيراً الأنغام التي تعزفها الأحزاب الشعبوية.