الإقبال الجامح على العملات المشفرة جرس إنذار للأسواق العالمية
(البيان)-12/09/2025
إذا كنت تبحث عن دليل حيّ على حالة الفقاعة التي تعيشها الأسواق المالية حالياً، فلن تحتاج إلى أبعد من المثال المألوف: العملات المشفرة. فقد بلغ الصعود الجامح لهذه الفئة مستويات غير مسبوقة منذ أيام، وهو ما تجسّده القصة اللافتة لشركة «إيتكو هولدينجز».
فحتى الأسبوع الماضي، لم تكن «إيتكو هولدينجز» سوى شركة صغيرة متواضعة متخصّصة في صناعة العبوات الكرتونية، وإدارة مخزونات التجارة الإلكترونية، غير أنها أعلنت بداية الأسبوع، عن خطط جذرية لتحويل نشاطها بعيداً عن مجال التغليف التقليدي.
والتوجّه بدلاً من ذلك إلى الاقتراض لشراء رموز عملات مشفرة مرتبطة بتقنية مسح قزحية العين، التي يروّج لها سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي».
وبطبيعة الحال، قفزت أسئلة بديهية من قبيل «لماذا؟»، و«ما الغرض من هذه الرموز؟»، و«من الذي قد يوافق على مسح قزحية عينيه من أجل أقطاب وادي السيليكون؟» لكن مثل هذه الأسئلة -على ما يبدو- خارج اهتمامات المستثمرين.
فالسوق لم تنتظر الإجابة، إذ قفز سهم الشركة بأكثر من 5000%، قبل أن يتراجع قليلاً، ليستقر عند مكاسب يومية قدرها نحو 3000%، وذلك في أعقاب ما وصفته الشركة بأنه مبادرة هي «الأولى من نوعها».
وقد تكون هذه المبادرة، هي الأولى من نوعها بالفعل بالنسبة لتلك الرموز المرتبطة بمسح قزحية العين، لكن هناك مئات المشاريع المماثلة التي تقفز إلى السطح حالياً في شتّى أنحاء العالم، إذ تعمد شركات مدرجة في أسواق منظمة، إلى هجر أنشطتها التجارية العادية الرتيبة.
لتراهن بكل شيء على رموز مشفّرة، تحظى في كل الأحوال بإعجاب الإدارة الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أنّها لا تزال تفتقر إلى تطبيقات واقعية مفيدة في العالم الحقيقي.
ويدين جميع هؤلاء تقريباً بالإلهام الكبير من المستثمر الرائد مايكل سايلور، الذي نجح بعد الجائحة في تحويل شركته البرمجية المتعثّرة «مايكرواستراتيجي»، إلى عملاق يلتهم عملات البيتكوين، وتبلغ قيمته السوقية حالياً 92 مليار دولار.
ويحمل اسماً جديداً، هو «استراتيجي»، وقد كوّن خلال هذه العملية ثروات هائلة للكثير من المتابعين المخلصين، رغم أنّه لا يزال يُواجَه بالرفض، كلما حاول إدراج شركته ضمن مؤشر ستاندرد آند بورز 500.
لا يسعني سوى أن أتمنى الكثير من الحظ لأي شخص يضع مدّخرات حياته في مثل هذا النوع من المضاربة، التي تميل عادةً إلى جذب المستثمرين الأفراد المتحمّسين للمغامرة، سواء كانوا على دراية تامة بالمخاطر، أو مؤمنين إيماناً راسخاً بإمكانات العملات المشفّرة، أكثر من جذبها لمديري الصناديق المؤسسية.
ولا يُعدّ هذا النوع من المضاربات «مخاطرة نظامية» بحدّ ذاته، ويمكن تفهّم أن يعتبره المستثمرون المحترفون مجرّد تفنيد طريف لـ «نظرية كفاءة السوق»، لكنّ الأمر يظلّ مهماً من زاوية أنّه يمثّل فئة متطرّفة في الأسواق المالية، تبدو متفائلة على نحو مفرط، لا يخلو من خطر كبير.
إنّه بمثابة جرس إنذار، ينبّه إلى أنّ هناك شيئاً ما غير سليم بالمرة. والأسوأ أنّ ذلك كله يحدث، فيما لم يبدأ الاحتياطي الفيدرالي بعد بخفض معدلات الفائدة من جديد.
ليس جميع المستثمرين بالطبع، لكن كثيرين منهم يقرّون بأنّ الأسواق تعيش حالة نشوة مقلقة للغاية. ولذلك، قال نيكولاي تانجن رئيس صندوق النفط السيادي النرويجي الضخم الذي تبلغ قيمته 2 تريليون دولار، خلال مشاركته في مهرجان فاينانشال تايمز ويكند مطلع هذا الشهر:
«لو أخبرني أحد قبل عام عن شكل العالم حالياً، لكنتُ توقّعت هبوط السوق بنسبة 30 أو 40%»، وكان يشير فقط إلى تداعيات السياسة التجارية الأمريكية على العولمة.
إن ما نراه بالفعل، هو تعريفات جمركية حادّة، ومساعٍ من دونالد ترامب لشنّ استحواذ عدائي على البنك المركزي، وتدخّل سياسي في بيانات اقتصادية جوهرية في الولايات المتحدة الأمريكية، ورئيس يختار الفائزين والخاسرين في قطاع الشركات الأمريكية. ورغم كل ذلك، تحلق الأسهم الأمريكية عند مستويات قياسية أو قريبة منها، مرتفعةً بنسبة 10% منذ بداية العام.
كذلك، يبدو واضحاً أنّ المستثمرين في حالة معنوية مرتفعة. فقد كشف أحدث استطلاع أجرته «أبسولوت استراتيجي ريسيرش»، مطلع هذا الشهر، عن حالة تفاؤل واضحة لدى مديري الصناديق.
وقالت المؤسسة إنّ «مديري تخصيص الأصول عالمياً، أكثر تفاؤلاً ممّا كانوا عليه قبل ثلاثة أشهر، كما أنّ درجة يقينهم قد ازدادت». ولم يقتصر التفاؤل على تجاوزه المستويات المتدنية التي سادت في وقت سابق من هذا العام، بل تخطّى أيضاً المتوسط المسجّل خلال العقد الماضي بكامله.
السؤال الآن: ماذا سيحدث حين نمزج حالة السوق هذه مع طفرة المبالغات الجامحة الواضحة في سوق العملات المشفّرة، ثم نضيف إليها خفض معدلات الفائدة، حسبما هو متوقع فعله من جانب الاحتياطي الفدرالي الأسبوع المقبل؟.
المتفائلون يحرصون على التأكيد أنّ أرباح الشركات في الولايات المتحدة الأمريكية تتمتّع بالقوة، وهذا صحيح. لكن كما تشير «أبسولوت استراتيجي ريسيرش» أيضاً، فإنّه من النادر جداً خلال نصف القرن الماضي، أن يُقدِم الاحتياطي الفيدرالي على خفض معدلات الفائدة.
بينما الأرباح تحقق أداء قوياً كهذا، وكان آخر مثال بارز على ذلك، حدث قبيل الأزمة المالية العالمية 2008 مباشرةً.
عموماً، من المستحيل تحديد الحدّ الفاصل، في الوقت الفعلي، بين مرونة الأسواق الجديرة بالإعجاب ونشوتها المقلقة. لكن من غير الحكمة بالمرة، النظر إلى فقاعة العملات المشفّرة باعتبارها مجرد حدث جانبي لا تأثير له.