العالم بحاجة إلى أدوات جديدة لمواجهة حدود السياسات النقدية
(البيان)-07/10/2025
كثيراً ما يبذل محافظو البنوك المركزية جهداً كبيراً لتذكيرنا بأن تحديد أسعار الفائدة «أداة غير دقيقة» لتوجيه الاقتصاد، وبالتالي الأسعار.
وينتقل تغيير سعر الفائدة إلى الاقتصاد الحقيقي عبر قنوات متعددة، فعلى المستوى الأساسي يؤثر على الأسعار في الأسواق المالية، وهو ما يؤثر بدوره على تكلفة الائتمان وأسعار الصرف. وهذا بالتالي يؤثر على سلوك الأسر والشركات.
ونادراً ما تكون هذه الآلية بهذه السلاسة، حيث تعاني في بعض الأحيان من «فترات تأخير طويلة ومتغيرة». لكن في الآونة الأخيرة، أدى انتشار الديون المقيدة بأسعار فائدة ثابتة إلى تخفيف تأثير تغييرات الأسعار بشكل أكبر.
وعلى مدى العقدين الماضيين، أصبحت القروض العقارية ذات الفائدة العائمة – المرتبطة بأسعار فائدة البنوك المركزية – أقل شيوعاً في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واقتصادات منطقة اليورو الرئيسية.
وأصبحت المنتجات طويلة الأجل ذات الفائدة الثابتة أكثر هيمنة. ويقول بول ديلز، كبير الاقتصاديين البريطانيين في كابيتال إيكونوميكس: «إن التحول في أنواع الرهن العقاري يعني أن السياسة النقدية تستغرق وقتًا أطول بالتأكيد لتجد طريقها إلى مدفوعات الأسر».
وفي تدوينة نُشرت في مايو، أشار اقتصاديون في البنك المركزي الأوروبي إلى أنه على الرغم من التخفيضات الأخيرة في أسعار الفائدة، فإن متوسط أسعار الرهن العقاري سيرتفع أكثر ويؤثر سلبًا على الاستهلاك «على الأقل حتى عام 2030».
ويرجع ذلك إلى قيام الأسر بإعادة رهن قروضها العقارية بأسعار فائدة أعلى بعد إتمام صفقات ثابتة طويلة الأجل. وقد تبنت الشركات أسعار الفائدة الثابتة أيضاً.
ولذلك، انخفض إصدار سندات الشركات الأمريكية ذات أسعار الفائدة العائمة من حوالي 30% قبل الأزمة المالية العالمية إلى ما يزيد قليلاً عن 15% الآن. كما أدى التكوين القطاعي المتغير للاقتصادات المتقدمة إلى تقليل حساسيتها لتغيرات أسعار الفائدة.
وفي هذا السياق، يقول ماركو كاسيراجي، مدير في إيفركور آي إس آي: «لقد تضاءل الوزن النسبي للقطاعات كثيفة رأس المال الحساسة لأسعار الفائدة، مثل التصنيع والبناء، لصالح الخدمات، التي تتطلب عمالة أكثر وتكون أقل استجابة لأسعار الفائدة». كما تنفق الأسر أقل على السلع المعمرة وأكثر على الخدمات، التي لا تحتاج عادةً إلى الاقتراض من أجلها.
وتُظهر حسابات «أكسفورد إيكونوميكس» أن إنتاج القطاعات المنتجة للسلع في الاقتصادات المتقدمة تعرض لضغوط بسبب ارتفاع أسعار الفائدة منذ بداية عام 2022، بينما حافظت الخدمات على مرونتها.
واتبعت الوظائف النمط نفسه. ومع ذلك، فإن الخدمات مثل تكنولوجيا المعلومات والبحث والتطوير، والتي يمكن تصنيفها على أنها حساسة لأسعار الفائدة نظريًا (نظراً لكثافة رأس مالها)، قد نمت حصتها من النشاط في الاقتصادات المتقدمة.
ومع ذلك، فإنها كانت أقل استجابة لارتفاع أسعار الفائدة، لا سيما في هذه الدورة، حسبما يشير نيكو باليش، الخبير الاقتصادي في الصناعة في أكسفورد إيكونوميكس.
ويقول: «أولاً، الاستثمارات في البرمجيات والخدمات السحابية والبحث والتطوير تميل إلى اعتبارها هيكلية وذات عائد مرتفع، مما يجعلها أقل اعتماداً على دورة أسعار الفائدة. ويتجلى هذا في التوسع الحالي في الذكاء الاصطناعي. كما أن الإنتاج اليومي السائد في هذه القطاعات – مثل خدمات الاتصالات وتبني برمجيات المؤسسات – لا يتأثر كثيراً بأسعار الفائدة».
وفي سياق متصل، تجاوز الإنفاق على الأصول غير الملموسة – بما في ذلك الملكية الفكرية والبرمجيات والرموز – الاستثمارات الملموسة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات الكبرى منذ الأزمة المالية العالمية.
وخلص بحث أجراه بنك الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو إلى أن الاستثمار في الأصول غير الملموسة أقل تأثراً بأسعار الفائدة من الإنفاق على المصانع والمعدات. ويرجع ذلك إلى أن الأصول غير الملموسة غالبًا ما تُموّل باستخدام أموال داخلية أو أسهم، مما يجعل رهنها كضمان للقروض أصعب.
ويوضح بول دونوفان، كبير الاقتصاديين في إدارة الثروات العالمية في بنك «يو بي إس» أن مخزون رأس المال المادي يتم استغلاله بكفاءة أكبر اليوم.
ويقول: «قبل ثلاثين عاماً، إذا أردتَ دخول مجال تجارة التجزئة، كان لا بد أن تمتلك واجهة متجر فعلية. أما الآن، فأنتَ بحاجة إلى حساب على موقع «إيتسي» على سبيل المثال وهاتف ذكي مزود بكاميرا عالية الجودة، لتصبح ساعتها غرفة نومك بمثابة مستودعك».
التمويل مهم بكل تأكيد. وفي هذه الدورة، لم يكن ازدهار الاستثمار في الذكاء الاصطناعي في البنية التحتية المادية، بما في ذلك مراكز البيانات، مدعوماً بالديون.
ويقول مايكل كروك، كبير مسؤولي الاستثمار في «ميل كريك كابيتال أدفايزرز»: «يُموّل مُطوّرو التكنولوجيا فائقة النمو نفقاتهم الرأسمالية من التدفقات النقدية، وليس من خلال الاقتراض.
ويتم توجيه ما يقرب من 70% من التدفقات النقدية التشغيلية الحالية نحو الاستثمار في الذكاء الاصطناعي». وبينما ضغطت أسعار الفائدة المرتفعة على قطاعي التصنيع والبناء السكني، ازداد الإنفاق المرتبط بالتكنولوجيا.
واستمرت أسعار الأسهم المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في الارتفاع. وفي الولايات المتحدة تحديدًا، أدى ارتفاع سوق الأسهم – بفضل ارتفاع حصة شركات التكنولوجيا من القيمة السوقية – إلى تبسيط الأوضاع المالية، وتعويض تأثير ارتفاع أسعار الفائدة.
كانت هذه مجرد لمحات سريعة للتغيرات الهيكلية والخصائص التي زادت من ضعف السياسة النقدية خلال هذه الدورة، لكن ما هي نتيجة انخفاض الحساسية تجاه أسعار الفائدة؟
أولاً، يُضعف ذلك من آثار تغييرات السياسة النقدية ويستغرق وقتاً أطول لظهورها في الاقتصاد، لذا يحتاج محافظو البنوك المركزية إلى رفع أو خفض تكاليف الاقتراض مقارنةً بالماضي لإحداث تأثير مُكافئ.
ثانياً، يعني ذلك أن انتقال السياسة النقدية يعتمد على قطاعات أضيق وأكثر حساسية لأسعار الفائدة في الاقتصاد، خاصةً الأسر والشركات ذات القروض قصيرة الأجل والمتغيرة. وهذا يزيد من خطر فرض ضغوط أسعار فائدة زائدة – أو منخفضة جدًا – على قطاعات مُعينة.
وتُشكل الخلفية الاقتصادية العالمية الحالية تحديات إضافية.
ويكون استخدام أسعار الفائدة لتوجيه الاقتصاد والأسعار أسهل عندما تكون الصدمات نادرة، فيما يؤدي تزايد حالة عدم اليقين السياسي وصدمات العرض الناجمة عن التحولات في أنماط التجارة والأوضاع الجيوسياسية وموارد الطاقة إلى زيادة صعوبة ضبط السياسة النقدية، التي تؤثر في المقام الأول على جانب الطلب.
ولا يعني أي من هذا أن السياسة النقدية غير فعالة أو غير ذات أهمية، فالبنوك المركزية المستقلة ذات المصداقية هي التي ترسي توقعات التضخم. وفي الدورة الحالية، أدى تشديد السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة إلى تباطؤ بعض القطاعات، ورفع تكلفة الائتمان، وتقريب التضخم من هدف 2 %.
ويمكن أن تتغير حساسية أسعار الفائدة القطاعية أيضاً بين الدورات، فعلى سبيل المثال، أشار بنك جولدمان ساكس الأسبوع الماضي إلى أن الإنفاق على الذكاء الاصطناعي يتزايد بسبب الديون، لكن التغييرات الهيكلية طويلة الأجل تُضعف صلاحيات واضعي أسعار الفائدة المحدودة أصلاً.
لكن ما أهمية ذلك؟ أصبحت السياسة النقدية الأداة المحورية لتوجيه الاقتصادات في الغرب. وتواجه السياسة المالية قيوداً سياسية وميزانية، وتستغرق إصلاحات جانب العرض وقتاً أطول من الدورة الانتخابية لتؤتي ثمارها.
والضجيج، الذي يحدثه المستثمرون ووسائل الإعلام حول كل قرار يصدره البنك المركزي وكذا البيانات اقتصادية، يفرضان على عملية تحديد أسعار الفائدة قوةً لا تمتلكها في واقع الأمر. لكن السياسات المالية وسياسات جانب العرض تُعدّ أدوات أكثر حسماً لتوجيه الاقتصاد والأسعار.
ويمكن توجيه قرارات الضرائب والإنفاق بدقة. ويصيغ الانضباط المالي تكاليف الاقتراض طويل الأجل.
يمكن لإصلاحات الأراضي والعمالة والطاقة ورأس المال أن تُعزز العرض والمرونة على المدى الطويل. وهكذا، مع تباطؤ آثار السياسة النقدية وتغيرها، ستكون هناك حاجة إلى أدوات أخرى إلى تحمل عبء الإدارة الاقتصادية.