سويسرا عند مفترق طرق.. حياد تحت الضغط وأزمات داخلية تهدد النموذج الفريد
(سي ان بي سي)-23/12/2025
تشهد سويسرا واحدة من أكثر الفترات اضطراباً في تاريخها الحديث، حيث تتقاطع الأزمات الخارجية مع الانقسامات الداخلية لتضع النموذج السويسري القائم على الحياد والتوافق والديمقراطية المباشرة أمام اختبار غير مسبوق.
كانت أزمة الرسوم الأميركية الأخيرة بمثابة صدمة قوية للنظام الاقتصادي السويسري. عندما فرضت واشنطن رسوماً بنسبة 39% على السلع السويسرية — من الساعات إلى الشوكولاتة والآلات — فيما تحركت الحكومة والقطاع الخاص بسرعة.
لكن الخلاف العلني حول الاستراتيجية شكّل خروجاً عن أسلوب التنسيق الهادئ التقليدي. الكانتونات الموجهة نحو التصدير طالبت بتقارب أكبر مع أوروبا، فيما فضّل آخرون نهجاً أكثر صدامية تجاه الولايات المتحدة. وفي النهاية، تم التوصل إلى تسوية عند 15% بفضل ضغط مباشر من التنفيذيين، لكن الانقسام الداخلي ظل قائماً، حسب تقرير الفايننشال تايمز.
هذه الأزمة بلورت حقيقة أوسع، وهي أكبر حالة عدم يقين تواجهها سويسرا تكمن في القضايا الخارجية التي طالما أجّلتها، مثل الحياد، الدفاع، العلاقة مع أوروبا، الهجرة وحجم الدولة.
حياد تحت ضغط الحرب في أوكرانيا
الحرب في أوكرانيا وضع حياد سويسرا المميز تحت ضغط غير مسبوق منذ عقود. كما أن قرار المجلس الفدرالي تبني عقوبات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة شكّل تحولاً كبيراً، لكنه ترك أسئلة معلقة حول تطبيق الحياد في الصراع السيبراني والحروب بالوكالة. الجدل مستمر حول سياسة العقوبات المستقبلية، إعادة تصدير المعدات العسكرية، ومسؤوليات البلاد الإنسانية.
ووافق البرلمان هذا الشهر على تخفيف القيود على إعادة تصدير المعدات العسكرية، فيما أشار وزير الدفاع الجديد إلى رغبة في تعزيز التعاون الأمني مع أوروبا وحلف الناتو.
العلاقة المعقدة مع الاتحاد الأوروبي
وفي سياق متصل، النظام الثنائي الذي يمنح سويسرا وصولاً إلى السوق الموحدة دون اندماج سياسي خدم البلاد جيداً، لكنه أصبح أصعب في الاستمرار مع تعزيز الاتحاد لإطاره التنظيمي. بعد سنوات من المفاوضات، توصلت برن وبروكسل إلى مسودة اتفاق Bilateral III لتحديث وصول سويسرا إلى السوق الموحدة، بحسب التقرير.
الاتفاق يتناول قضايا مشابهة لتلك التي عقدت خروج بريطانيا من الاتحاد، مثل المساهمات في الميزانية، الهجرة، والرقابة القضائية. ومن المرجح أن يحتاج إلى موافقة عبر استفتاء، لكن الرأي العام منقسم بشدة. المؤيدون يرون أن الوصول إلى السوق ضروري للتنافسية، إذ يستوعب الاتحاد الأوروبي 50% من صادرات سويسرا، فيما يحذر المعارضون من أن التوافق الأعمق قد يهدد السيادة ويزيد من القيود التنظيمية.
نقاش داخلي حول دور الدولة
إلى جانب القضايا الجيوسياسية الكبرى، ظهر نقاش داخلي حول دور الدولة وحجمها. لطالما افتخرت سويسرا بقطاع عام رشيق وباعتمادها على القطاع الخاص في مجالات مثل الإسكان، التقاعد، رعاية الأطفال والبنية التحتية. لكن ارتفاع تكاليف المعيشة، نقص العمالة والضغوط الديموغرافية بدأت تتحدى هذا النموذج.
مقترحات مثل دعم رعاية الأطفال، توسيع إجازة الوالدين، وزيادة تدخل الحكومة الفدرالية في الإسكان اكتسبت زخماً عبر الأحزاب، معبرة عن رؤى متنافسة لما يجب أن يكون عليه العقد الاجتماعي السويسري في بيئة أكثر تعقيداً.
إعادة توجيه لا تراجع
ورغم هذه التحديات، يرى مسؤولون أن سويسرا ليست على منحدر هابط بل في عملية إعادة توجيه. يقول نائب وزير الدولة في وزارة الخارجية توماس غوربر: “لا أرى أننا على منحدر هابط. أعتقد أننا في عملية إعادة توجيه لأنفسنا لمواجهة تحديات عديدة”.
ويضيف الرئيس التنفيذي لشركة Zurich Insurance: ماريو غريكو: “سويسرا في موقع فريد للغاية لتكون ناجحة في هذه الحقبة الجديدة. السؤال هو ما إذا كانت ستستفيد من هذا الموقع”.
مساحة المناورة
تدخل سويسرا مرحلة انتقالية معقدة، حيث تتقاطع الأزمات الخارجية — من الرسوم الجمركية إلى الحرب الأوكرانية والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي — مع نقاش داخلي حول دور الدولة وحجمها. قوتها الاقتصادية ومكانتها كمركز عالمي لإدارة الثروات ما زالت قائمة، لكن مساحة المناورة تضيق، والتحذيرات من مخاطر التراخي تجد صدى واسعاً بين رجال الأعمال والسياسيين.
وأصبح النموذج السويسري أمام اختبار حقيقي: هل يستطيع التكيف مع عالم يتدخل بسرعة أكبر من أي وقت مضى؟
