(البيان)-28/08/2024
بدأت الأسواق الناشئة تستعيد نموها إلى مستويات لم تسجل منذ 15 عاماً وبوتيرة تتجاوز الاقتصادات المتقدمة. الكاتب هو رئيس «روكفيلر إنترناشونال»، ونشر كتاباً جديداً بعنوان «ما الخطأ الذي حدث مع الرأسمالية».
شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين طفرة اقتصادية واسعة النطاق في الاقتصادات الناشئة، اجتذبت مليارات الدولارات إلى أسواقها المالية. وسلط المؤلف فريد زكريا الضوء على هذه اللحظة التاريخية، واصفاً إياها بـ«نهضة البقية». اليوم، تتكشف قصة مماثلة في العالم الناشئ، لكن هذا التحول الكبير لم يلق الاهتمام الكافي من المراقبين والمستثمرين على حد سواء.
تشهد الأسواق الناشئة عودة قوية. فبعد فترة ضعف حاد استمرت عقداً من الزمن، بدأت هذه الأسواق تستعيد نموها إلى مستويات لم تسجل منذ 15 عاماً، وبوتيرة تتجاوز الاقتصادات المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأقوى عالمياً.
وتشير التوقعات إلى زيادة نسبة الاقتصادات الناشئة التي سيتفوق فيها نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على الولايات المتحدة، من 48% خلال السنوات الخمس الماضية إلى 88% في السنوات الخمس المقبلة. هذا المعدل المرتفع يضاهي ذروة النمو التي شهدتها الأسواق الناشئة في العقد الأول من القرن الحالي.
وتختلف هذه الطفرة الناشئة عن سابقتها في عدد من الجوانب المهمة. ففي العقد الأول من الألفية، كان العالم الناشئ مدفوعاً في طفرته بالنهضة السريعة للصين، وزيادة هائلة في أسعار السلع، فضلاً عن السياسات النقدية التيسيرية التي تبنتها المصارف المركزية الغربية.
وافترض كثير من المعلقين مواصلة «البقية» ازدهارهم على نطاق واسع بفضل نهضة الصين، بيد أنهم أصيبوا بخيبة أمل شديدة. وفي عام 2012، وبينما كنت مندهشاً من الضجة الزائدة، التي حذرت من «انهيار البقية». وبالفعل، كان العقد التالي مزرياً للأسواق الناشئة، ورائعاً للولايات المتحدة.
ومع ذلك، تعيش كثير من الدول الناشئة وضعاً مالياً أكثر قوة من الولايات المتحدة. وباعتبارها قوة عظمى مفرطة التحفيز تعتمد على عجز قياسي لدفع عجلة النمو، فالولايات المتحدة لا تسلك مساراً مُستداماً. وتتمتع الأسواق الناشئة بعجز أقل كثيراً في الموازنة والحساب الجاري، ما يتيح لها مجالاً أكبر للاستثمار وتحفيز النمو في المستقبل. وحتى الدول التي كانت معروفة فيما سبق بالتبذير المالي، بداية من تركيا وحتى الأرجنتين، فقد عادت إلى اتباع نهج اقتصادي تقليدي.
ولم يعد مصير الاقتصادات الناشئة متوقفاً تماماً على أكبرها. فالانتعاش الحالي مدفوع بدول غير الصين، التي تواجه صعوبات ما بين تعداد سكاني آخذ في الانكماش والديون التي تثقل كاهلها. كما أن النزعة القومية التي تبنتها الصين وعلاقتها المضطربة مع الغرب على نحو متزايد أخافت المستثمرين العالميين الذين أخذوا في التخارج من الصين وبناء مصانعهم في بلدان أخرى.
وفي العقد المقبل، من المرجح أن تكون الصادرات قوية خاصة التقنيات الخضراء والمواد الخام اللازمة لبنائها، مثل النحاس والليثيوم، التي توردها الأسواق الناشئة في الأساس. وتعزز طفرة الذكاء الاصطناعي صادرات موردي الرقاقات ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي، مثل كوريا الجنوبية وتايوان.
وكذلك الإلكترونيات التي تصدرها ماليزيا والفلبين. ويتزايد الاستثمار في كثير من الأسواق الناشئة، والذي يجذبه مجموعة من أوجه القوة، مثل السوق المحلية الكبيرة في الهند، والبيئة الخصبة لمراكز البيانات في ماليزيا، وقرب المكسيك من الولايات المتحدة.
وتميل أرباح الشركات إلى الارتفاع مع انتعاش النمو الاقتصادي. وباستثناء الصين، تنمو الإيرادات بوتيرة سنوية قدرها 19% في الأسواق الناشئة مقابل 10% في الولايات المتحدة. وخلال الربع الثاني من العام الجاري، وللمرة الأولى منذ 2009، فاقت الشركات في الأسواق الناشئة، باستثناء الصين، توقعات الأرباح بهامش كبير مقارنة بنظيراتها في الولايات المتحدة. وشهدت هوامش الربح تحسناً في الأسواق الناشئة، لكنها في حالة ركود بالولايات المتحدة على مدى 18 شهراً.
ولم تصدر استجابة بعد من المستثمرين في أسواق الأسهم العالمية، المبهورين بالقيم السوقية الضخمة لشركات التكنولوجيا الأمريكية. وقد نضب النشاط في غالبية أسواق الأسهم بالأسواق الناشئة، إذ تسجل أحجام التداول في العديد من الدول أدنى مستوياتها منذ 20 عاماً.
لكن الهند والمملكة العربية السعودية تأتي بين الأسواق الناشئة القليلة التي تحقق مكاسب تنافسية، وتتمتع بقاعدة مستثمرين محليين قوية وسريعة التوسّع. ومع ذلك، توجد مؤشرات على تحوّل قادم.إن سمعة الولايات المتحدة المتزايدة باعتبارها أكبر منفق غير مسؤول وتعاني عجزاً، وهي الإمبراطورية المالية التي تستفيد من وضعها كصاحبة عملة احتياطي باعتبارها أمراً مُسلّماً به، تهدد بتقويض الدولار. وفي الأسابيع الأخيرة، بدأت العملة الأمريكية في التراجع، ما أدى تاريخياً إلى تدفقات أكبر لرؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة.
وبعد مكوثها طويلاً تحت ظلال الولايات المتحدة، أصبحت الأسواق الناشئة صفقة جذابة بشكل متزايد. ورغم عودتها إلى تسجيل نمو أسرع للأرباح، إلا أنه لا يزال التداول فيها يتم عند تقييمات منخفضة جداً مقارنة بالولايات المتحدة. وطوال 15 عاماً، حققت الولايات المتحدة نمواً متميزاً للأرباح كان مدفوعاً في الأساس بعمالقة التكنولوجيا، لكن هذا أيضاً يتغير. ومن المُتوقع أن ينخفض نمو أرباح «الرائعين السبعة» في الولايات المتحدة بأكثر من النصف خلال العام المقبل.
وبطبيعة الحال، لم يكن من المنطقي أبداً تجميع الدول الناشئة معاً في حزمة واحدة. وسيعني نهوض البقية عقداً جيداً للدول الناشئة في المتوسط، لكن ستكون في مقدمتها مجموعة مُختارة من الوجوه البارزة، تستمد كل منها قوتها بطرق مختلفة من الاتجاهات المواتية للتجارة العالمية والدولار والإصلاحات الاقتصادية والقيادات السياسية الجديدة.
وحري بنا هنا أن نتذكّر أن كثيراً من المعلقين، حتى وقت قريب، كانوا يحذرون من أن العالم الناشئ عُرضة للتأثر بمجموعة أزمات، في أعقاب الصدمة الناجمة عن الجائحة. وتظل التوقعات منخفضة للغاية والمخاوف مرتفعة جداً إلى درجة أن أغلب المستثمرين العالميين لا يلاحظون الأسواق الناشئة. ومع ذلك، فتلك هي طبيعة العودة. إنها تنهض من الغموض، وكلما كانت الظلال التي تنهض منها أكثر قتامة، كلما ازدادت الجلبة المُثارة حول عودتها بمجرد إدراكها.