“أميركا أولًا”.. هل يدفع العالم ثمن حمائية ترامب؟
(العربية)-20/12/2024
فاز دونالد ترامب بولاية ثانية في البيت الأبيض بعد تعهده بضرب الحقائق الراسخة بعرض الحائط، رغم اعتبارها من قبل الخبراء من المبادئ الأساسية، فالتجارة الحرة أصبحت خارج الحسابات، بينما الحماية الاقتصادية أصبحت على رأس الأولويات، ولم يعد القلق بشأن الديون مطروحًا، بينما خفض الضرائب أصبح هو الحل.
النظام الراسخ الذي يسعى ترامب للإطاحة به لم يحقق نجاحًا كبيرًا في الفترة الماضية، فخلال عهد الرئيس جو بايدن، ارتفعت معدلات التضخم في الولايات المتحدة إلى ما يقارب 10%، ويرجع ذلك جزئيًا إلى التحفيز المالي المبالغ فيه.
كما أن عقودًا من الالتزام بمبدأ التجارة الحرة أضعفت الطبقة العاملة الأميركية في المصانع، ومن ناحية أخرى، أثارت الحروب في أوكرانيا وغزة تساؤلات حول استمرار القيادة الأميركية للشؤون العالمية بحسب ما أوردته “بلومبرغ” واطلعت عليه “العربية Business”.
ومع ذلك، سيستغرق الأمر وقتًا قبل أن تبدأ هذه التغييرات الجذرية في التنفيذ، لسبب بسيط وهو أن أي إدارة، حتى لو كانت متمرسة في آليات العمل بواشنطن، لا يمكنها تنفيذ خططها بسرعة كبيرة.
التأثير على الاقتصاد العالمي
وفقًا لتوقعات “بلومبرغ إيكونوميكس”، سيبقى النمو العالمي في عام 2025 عند مستوى متواضع يبلغ 3.1%، وهو نفس المعدل المتوقع لعام 2024، لكن التضخم سيتباطأ إلى 3.4% مقارنة بـ6%، مع اقتراب معدلات التضخم في الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة من هدف 2% الذي تستهدفه البنوك المركزية منذ فترة طويلة.
ومع ذلك، سيشعر الاقتصاد العالمي والأسواق المالية ببعض الضغوط، فهناك إجماع بين الاقتصاديين على أهمية التجارة، فهي تعزز المنافسة وتشجع على التخصص، ما يزيد الإنتاجية ويرفع النمو، وبالتالي مستوى الدخل، وتساهم أيضًا في الحد من التضخم في الدول المتقدمة من خلال توفير سلع بأسعار أقل بفضل العمالة في الصين والمكسيك ودول أخرى.
لا توجد تجارة مجانية
لكن، وكما جاء في عنوان كتاب نشر عام 2023 من تأليف روبرت لايتهايزر – مهندس التعريفات الجمركية في فترة ترامب الأولى – “لا توجد تجارة مجانية، إذ أشار إلى التأثير المدمر لنقل الوظائف الصناعية إلى الخارج، وكيف ترك ذلك مدينته في أوهايو خاوية من صناعة الصلب.
وأدى نزوح الوظائف التصنيعية إلى تراجع كبير في دخول الطبقة العاملة، في الوقت نفسه، استغلت الصين وصولها إلى الأسواق العالمية لتحول نفسها إلى أكبر مصدر في العالم ومنافس جيوسياسي للولايات المتحدة.
ويرى محللو “بلومبرغ إيكونوميكس” أن تعهدات ترامب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 60% على الصين و20% على بقية دول العالم. بمثابة ضربة قوية للناتج المحلي الإجمالي الأميركي وارتفاع في التضخم.
لكنهم استنادًا إلى تجربة فترة ترامب الأولى، استبعدوا أن تصل التعريفات الجمركية إلى تلك المستويات المعلنة، بل ستكون مخصصة لفئات بعينها وليست شاملة، وسيتم تنفيذها تدريجيًا.
وتوقعوا أن يؤدي ذلك خلال عام 2025، إلى تأثير طفيف على الولايات المتحدة والصين، لكنه سيتطور إلى ضربة أكبر للنمو الاقتصادي تمتد إلى المكسيك وكندا وشركاء تجاريين رئيسيين آخرين في عام 2026.
ومع ذلك، هناك شيء مهم قد تغير، فحتى في أفضل السيناريوهات، فإن التحول من التجارة الحرة إلى الحماية الاقتصادية يمثل أخبارًا سيئة للاقتصاد العالم، فإذا مضى ترامب قدمًا بتطبيق تعريفاته الجمركية بالكامل، ستتعرض سلاسل التوريد لشركات مثل “آبل” في آسيا وصناعة السيارات الخاصة بـ”جنرال موتورز” في المكسيك إلى مخاطر كبيرة.
العجز الكبير مشكلة خطيرة
واجمع الاقتصاديون أيضًا أن العجز المالي الكبير يمثل مشكلة خطيرة، صحيح أن زيادة الإنفاق العام في فترات الركود لدعم الطلب فكرة جيدة، لكن في الأوقات العادية، خارج فترات الحرب أو الأزمات، يجب السيطرة على الاقتراض.
وتتبع إدارة بايدن بالفعل سياسات مالية متساهلة، من المتوقع أن تصل بالعجز في عام 2024 إلى نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي، نتيجة الإنفاق الكبير خلال الجائحة وعدم تخفيضه بسرعة كافية بعد انتهاء الأزمة.
لكن ترامب يعد بسياسات أكثر تساهلًا، فهو ومستشاروه يروجون لوصفة اقتصادية تقليدية تعتمد على جانب العرض، مع لمسة من الحماية الاقتصادية، تبدأ بخفض الضرائب – لتعزيز النشاط الاقتصادي. ثم، رفع الرسوم الجمركية – لتعويض بعض الإيرادات المفقودة. وأخيرًا، خفض الإنفاق العام – لسد الفجوة المتبقية.
جمع الإيرادات صعب
وتكمن المشكلة في أن خفض الضرائب سهل التنفيذ، بينما جمع الإيرادات من الرسوم الجمركية وخفض الإنفاق العام أصعب بكثير، فرفع التعريفات الجمركية إلى مستويات مرتفعة سيؤدي إلى إبطاء النمو وزيادة التضخم، كما سيقلل من الواردات وبالتالي من الإيرادات.
وفي الوقت نفسه، يمثل الإنفاق على الدفاع والضمان الاجتماعي والرعاية الصحية الجزء الأكبر من الميزانية، وهي بنود لن يمسها ترامب بسهولة.
في الوقت نفسه، ترتفع الديون العامة الأميركية بالفعل بسرعة، حيث قفزت من 79% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى ما يقارب 100% في 2024، ومع تعهد ترامب بتمديد التخفيضات الضريبية التي أقرها في فترته الأولى، هناك خطر حقيقي بأن ترتفع الديون أكثر.
دور أميركا الأمني
فيما يتعلق بالأمن، يعتمد حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا على واشنطن كضامن للسلام والاستقرار، لكن “أميركا أولًا” التي يتبناها ترامب تعني أن هذا الدعم لم يعد مضمونًا.
وفي أوكرانيا، تعهده بإنهاء الحرب خلال 24 ساعة من توليه المنصب يهدد بإجبار كييف على الدخول في مفاوضات غير متكافئة مع موسكو.
وفي تايوان، يثير نهجه العملي تساؤلات جديدة حول أمن منطقة حيوية في سلسلة توريد أشباه الموصلات، أما بالنسبة لحلفاء الناتو، فإن تهديده بوقف الدعم عن الدول التي لا تزيد إنفاقها الدفاعي سيزيد من الضغوط المالية على بعض الدول الأوروبية.
الأسواق قد تجبره على التراجع
في النهاية، هناك منطق داخلي وجاذبية واضحة لمقترحات ترامب، إذا نظرنا إليها كحزمة تهدف إلى إعادة فوائد الاقتصاد الأميركي إلى الداخل، وتجاهلنا التكاليف، فإن رفع الرسوم الجمركية، خفض الضرائب، وإجبار الدول الأخرى على تحمل نفقات دفاعها تبدو منطقية.
ومع ذلك، هناك أمل بأن أصوات العقل داخل الإدارة – مثل وزير الخزانة المرشح سكوت بيسنت – والواقع اليومي للأسواق المالية ستمنع السياسات من الانحراف بعيدًا.
فهل سيطبق ترامب فعلًا رسومًا بنسبة 60% وتخفيضات ضريبية ضخمة إذا انهار مؤشر “S&P 500” وارتفعت عوائد السندات بشكل حاد؟ من المرجح أن لا يفعل ذلك.
مع ذلك، يتفق معظم الاقتصاديين والدبلوماسيين على أن التجارة الحرة، المسؤولية المالية، والضمانات الأمنية الأميركية قد جلبت فوائد كبيرة لأميركا والعالم، لكن ترامب يرى خلاف ذلك ويعد بفتح طريق جديد. خلال العام المقبل، سنكتشف من هو على حق.