أوروبا في عين العاصفة.. فهل تستطيع النهوض؟
(البيان)-04/02/2025
تحتل مسألة التنافسية موقع الصدارة في النقاشات الأوروبية هذه الأيام، حيث أطلقت المفوضية الأوروبية مبادرة «بوصلة التنافسية» الجديدة استجابة للتقرير الذي قدّمه ماريو دراغي.
وتتضمن هذه المبادرة خططاً طموحة لتطوير بنية تحتية أوروبية مستقلة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتعزيز السياسات الصناعية، واستكمال مشروع السوق الأوروبية الموحدة. وهي جميعها أهداف جديرة بالاهتمام.
لكن، كأميركية وصلت إلى مطار بروكسل منذ أيام، كان السؤال الوحيد الذي شغل تفكيري: «لماذا يستغرق الانتظار في طابور الجوازات ثلاث ساعات؟»، ولا يمكن اعتبار هذه الملاحظة مجرد تأملات سطحية من مراقب خارجي.
فهي تستند إلى تجربة عميقة امتدت لعشر سنوات من العيش والعمل في أوروبا. كانت تلك الفترة، والتي شهدت إطلاق العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، مليئة بالتفاؤل والآمال الكبيرة.
لكن الواقع يكشف أن أوروبا قد تراجعت منذ ذلك الحين عن منافستها الولايات المتحدة في معظم المؤشرات الاقتصادية الرئيسية، بما في ذلك معدلات النمو الاقتصادي، متوسط دخل الفرد، حجم أسواق رأس المال، وحتى في عدد شركات التكنولوجيا ذات القيمة السوقية المرتفعة.
ورغم التحديات الكبيرة، هناك بعض المؤشرات الإيجابية. فقد بدأت معدلات التضخم في التراجع، كما أن أسواق الأسهم في ألمانيا والمملكة المتحدة سجلت بعض المكاسب بعد انتخاب دونالد ترامب، مع سعي المستثمرين إلى تنويع استثماراتهم.
لكن في الوقت الذي تجد فيه أوروبا نفسها في موقف صعب بين التهديدات التجارية الأمريكية وإغراق الصين لأسواقها بالسيارات الكهربائية، تبرز الحاجة إلى التفكير بجدية في الخطوات التي يمكن للقارة اتخاذها لإحداث تحول جذري في مسارها الاقتصادي.
ويشهد المركز المالي الأمريكي في وول ستريت حالة من التلهف لإيجاد فرص استثمارية في أوروبا، وذلك لسببين رئيسيين: أولاً، أن الأسواق الأمريكية أصبحت تعاني من تركز شديد في الاستثمارات، مما يجعلها عرضة للصدمات المفاجئة – كما رأينا في الانهيار الذي أصاب أسهم شركات التكنولوجيا مؤخراً.
وثانياً، هناك مخاوف متزايدة من ركود اقتصادي متوقع في الولايات المتحدة، خاصة مع سياسات الرئيس ترامب غير المتوقعة، لكن المشكلة تكمن في أن المستثمرين يبحثون عن فرص النمو، وهو ما لا تقدمه أوروبا حالياً – فقد أظهرت البيانات الاقتصادية الأخيرة لمنطقة اليورو ركوداً في النمو الإقليمي، متأثراً بشكل خاص بالانكماش الاقتصادي في أكبر اقتصادين في المنطقة: ألمانيا وفرنسا.
ولا تقتصر الرغبة في التنويع على المستثمرين وحدهم، فأوروبا نفسها تدرك الحاجة الملحة لتحقيق قدر أكبر من الاستقلالية عن شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة، وذلك لأسباب تتجاوز البعد الاقتصادي إلى السياسي.
وفي مؤتمر حول التنافسية عُقد في بروكسل، أوضح الاقتصادي بونوا كوريه، رئيس هيئة المنافسة الفرنسية، أن ما حدث لهيئة المنافسة والأسواق البريطانية، التي أصبحت الآن تحت قيادة مسؤول تنفيذي سابق في شركة أمازون، يمثل «درساً تحذيرياً» يوضح كيف يمكن للنفوذ السياسي أن يقوض السيادة الوطنية.
ويرى ترامب أن المساعي الأوروبية لتنظيم عمل شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى تمثل محاولة غير عادلة لفرض ضرائب على الابتكار الأمريكي. وللرد على هذه الضغوط، تحتاج أوروبا إلى إحياء صناعتها التكنولوجية الخاصة.
وقد طرح تقرير «بوصلة التنافسية» مقترحات مثل إنشاء «مصانع ضخمة لابتكارات الذكاء الاصطناعي» لتعزيز القدرات الحاسوبية، إلى جانب دعم قطاعات التكنولوجيا الحيوية، والروبوتات، والحوسبة الكمّية، وعلوم الفضاء.
وخلال مؤتمر التنافسية، حذّر أعضاء البرلمان الأوروبي وكبار المديرين التنفيذيين من أن عدم توحيد القوانين التنظيمية وبناء بنية تحتية رقمية أوروبية مستقلة قد يجعل القارة عرضة للتحول إلى ما وصفوه بـ«المستعمرة» التكنولوجية.
لا شك أن هذه أهداف مهمة، لكنها تعيد إلى الأذهان النقاشات التي تخوضها أوروبا منذ 20 عاماً حول تكامل أسواق رأس المال، وتعزيز التعاون عبر الحدود في قطاع الخدمات، وإنشاء اتحاد مالي متكامل لكن لا يزال الوضع كما كان عليه في عام 2005.
إن الوقت ليس في صالح أوروبا، فبعد الأزمة المالية، اختارت القارة التركيز على تعزيز صادراتها بدلاً من العمل على خلق طلب داخلي وإقليمي أقوى، وهو ما تبين لاحقاً أنه خطأ استراتيجي.
ومع اتجاه كلّ من الصين والولايات المتحدة إلى تعزيز قطاعاتهما الصناعية، تجد أوروبا نفسها في موقف هش، فحتى القطاعات التصديرية الأكثر تنافسية بدأت تواجه تأثير ما يمكن وصفه بـ«الصدمة الصينية».
كشف تقرير مشترك للخبيرين ساندر توردوار وبراد سيتسر عن تراجع الإنتاج في ألمانيا خلال السنوات الخمس الماضية، بسبب الممارسات الصناعية غير العادلة للصين، مثل القروض منخفضة الفائدة، والمواد المدعومة، وأجور العمالة الرخيصة.
ويخلق هذا الوضع أزمة نمو وتوظيف شبيهة بما حدث في ديترويت سابقاً. وتكمن الخطورة في أن الصناعة تمثل 20% من الاقتصاد الألماني وتوفر 5.5 ملايين وظيفة، ما يجعل استمرار الوضع غير ممكن اقتصادياً وسياسياً.
ما الحل إذاً؟ تحتاج أوروبا إلى تعزيز تكامل الأسواق وتوحيد القواعد التنظيمية، كما تحتاج إلى نموذج جديد كلياً للنمو والتجارة.
وينبغي عليها الاستثمار في بنيتها التحتية الخاصة بالذكاء الاصطناعي، لكنها في الوقت نفسه يجب أن تتعاون مع الولايات المتحدة ودول أخرى متضررة من الصادرات الصينية الرخيصة، مثل البرازيل وتركيا.
وهناك خطوات عملية يمكن اتخاذها فوراً. فعلى سبيل المثال، ينبغي على الدول الأوروبية إعادة النظر في سياسة توجيه أموال الدعم المخصصة للمشاريع الخضراء، والتي تركز على شراء منتجات مصنعة في الصين، مثل المضخات الحرارية والسيارات الكهربائية.
كما يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى اعتماد سياسات «اشترِ المنتجات الأوروبية»، والتي يمكن تنسيقها مركزياً، لتكون نقطة انطلاق نحو نهج مشترك في الاستراتيجية الصناعية.
وتبدو ألمانيا المرشح الأبرز للاستفادة من هذه التغييرات، لكن الحصول على هذه الإعانات يتطلب منها إعادة النظر جذرياً في نهجها تجاه النمو والتجارة. وفي هذا السياق، يقترح الخبيران سيتزر وتوردوار أن تقبل ألمانيا بفكرة إخضاع الدول التي تحقق فوائض تجارية مستمرة وكبيرة بشكل غير طبيعي لرقابة صندوق النقد الدولي.
هذه التغييرات المقترحة تمثل تحولاً جوهرياً عن الوضع الراهن في أوروبا. والواقع يشير إلى أن أوروبا لم تعد تملك ترف الاختيار، فتعزيز القدرة التنافسية لم يعد مجرد خيار للتطور، بل أصبح ضرورة للبقاء.