أوروبا في مرمى الغاز القطري: هل يدفع المواطن الأوروبي ثمن قانون الاستدامة؟
(النهار)-29/07/2025
في خطوة غير مسبوقة، لوّحت دولة قطر، أحد أكبر مصدّري الغاز الطبيعي المُسال في العالم، بإمكانية وقف إمداداتها إلى أوروبا، وذلك ردّاً على قانون الاستدامة الأوروبي الجديد الذي يصنّف الاستثمارات في مشاريع الغاز من ضمن الأنشطة غير المستدامة بيئيّاً. هذا التهديد الصريح الذي جاء على لسان مسؤولين قطريّين رفيعي المستوى أعاد إلى الواجهة هشاشة منظومة الطاقة الأوروبية، ولاسيّما بعد انفصالها شبه الكامل عن الغاز الروسي منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.
القانون الأوروبي الذي أثار غضب الدوحة هو جزء من منظومة “التصنيف الأخضر” التي دخلت حيّز التنفيذ في حزيران/يونيو 2024، وتهدف إلى توجيه التمويل نحو مشاريع تساهم في تحقيق الحياد الكربوني. إلا أنّ تصنيف الغاز كمصدر طاقة غير مستدام أدّى إلى تقييد تمويل مشاريع توسعة إنتاجه، ما يضرّ بمصالح الدول المصدّرة وفي مقدّمها قطر، التي استثمرت أكثر من 45 مليار دولار في تطوير بنيتها التحتية لزيادة إنتاج الغاز المُسال إلى 126 مليون طن سنويّاً بحلول عام 2027، مقارنةً بـ77 مليون طن حاليّاً.
قطر اليوم تزوّد أوروبا بما يقارب 16 في المئة من وارداتها من الغاز الطبيعي المُسال، أي ما يعادل نحو 18 مليار متر مكعب سنويّاً. وهذه الكمية تشكّل شرياناً حيويّاً للقارّة العجوز، ولاسيّما في أعقاب أزمة الطاقة التي سبّبها الحظر المفروض على الغاز الروسي. وإذا قرّرت الدوحة تنفيذ تهديدها، قد تكون العواقب وخيمة على الأوروبيّين. بحسب تقديرات خبراء، قد يؤدّي أي نقص مفاجئ في الإمدادات القطرية إلى ارتفاع أسعار الغاز بنسبة 35 في المئة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الأزمة، وارتفاع فواتير الكهرباء للمستهلكين بنسبة 20 في المئة على الأقل، إلى جانب اضطراب في عمل الصناعات الثقيلة التي تعتمد على الغاز كمصدر طاقة أساسي.
لكن هل تستطيع أوروبا فعلاً الاستغناء عن قطر؟ من الناحية النظرية، ثمة بدائل متاحة. إلا أنّ السوق العالمية للغاز الطبيعي المُسال ضيّقة، ولا يتوافر فيها فائض يمكن توجيهه بسهولة. الولايات المتحدة برزت في السنوات الأخيرة كمصدّر رئيسي، بل أصبحت عام 2023 أكبر مصدّر للغاز المُسال بإجمالي صادرات تجاوز 88 مليون طن. وقد جرى توجيه ما يزيد على 55 في المئة من هذه الكمية إلى أوروبا بعد بدء الحرب في أوكرانيا. لكن قدرة الولايات المتحدة على زيادة الصادرات تراجعت بعد قرار إدارة بايدن تعليق إصدار تصاريح تصدير جديدة لدواعٍ بيئية. وهذا ما يُقيّد قدرتها على أداء دور المُنقذ مجدّداً بانتظار صدور تصاريح تصدير جديدة بعد إلغاء إدارة ترامب قرار التعليق.
أما الجزائر، فهي تُعَدّ خياراً طبيعيّاً بحكم الجوار الجغرافي، وهي تزوّد أوروبا بنحو 30 مليار متر مكعب سنويّاً من الغاز، عبر خطوط أنابيب تمرّ بإيطاليا وإسبانيا. لكن الجزائر تواجه تحدّيات كبيرة تتعلّق ببُنيتها التحتية المتقادمة، وبحاجتها لاستثمارات تتراوح بين 15 و20 مليار دولار لرفع قدرتها الإنتاجية والتصديرية. كذلك تعتمد البلاد على محطتين لتسييل الغاز، في أرزيو وسكيكدة، لكن الأخيرة لا تعمل حاليّاً بكامل طاقتها. يُضَاف إلى ذلك أنّ العلاقات السياسية المتقلّبة بين الجزائر وبعض العواصم الأوروبية قد تُعقّد أي شراكة بعيدة الأجل في قطاع الطاقة.
خارج الجزائر، تبدو البدائل محدودة. تمتلك نيجيريا احتياطات هائلة من الغاز، لكن منشآتها تعاني من اضطرابات أمنيّة وهجمات مسلّحة متكرّرة، ما يحدّ من استقرار الإمدادات. مصر بدورها سجّلت تراجعاً في صادرات الغاز بنسبة 40 في المئة عام 2024 بسبب زيادة الاستهلاك المحلي وانخفاض الإنتاج من حقول البحر المتوسط. وقد تنظر أوروبا في توقيع عقود بعيدة الأجل مع دول بعيدة مثل أستراليا أو ترينيداد وتوباغو أو أنغولا، لكن هذه الخيارات تتطلّب وقتاً طويلاً للاستعداد اللوجستي وتحمُّل كلفة شحن مرتفعة.
الواقع أنّ قطر تحتفظ بأوراق قوّة استثنائية في سوق الغاز، فهي تمتاز بأقلّ كلفة إنتاج عالميّاً، ولديها أسطول نقل حديث ومنشآت تسييل متطوّرة. كذلك ترتبط بعقود بعيدة الأمد مع شركاء كبار في آسيا مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية، ما يمنحها بعض الهامش لإعادة توجيه شحناتها في حال تصعيد الخلاف مع أوروبا. وإذا قرّرت قطر إعادة تخصيص كميات أكبر من إنتاجها إلى الأسواق الآسيوية، ستدفع أوروبا الثمن باهظاً على صعيدي الأسعار وأمن الإمدادات.
في المحصّلة، يضع التهديد القطري أوروبا أمام معادلة صعبة: إمّا الالتزام بأجندتها الخضراء بكلّ ما يترتّب عليها من تبعات اقتصاديّة، أو التراجع التكتيكي عن بعض بنود قانون الاستدامة لضمان تدفّق الطاقة قبل شتاءٍ قارس. وبين التمسّك بالمبادئ البيئية والواقعيّة الجيوسياسية، يبدو أنّ نزاع الغاز في طريقه للتحوّل إلى ساحة جديدة للتضارب في المصالح بين الشمال والجنوب.