الاعتماد الاستراتيجي المتبادل يرسم ملامح مرحلة جديدة للاقتصاد العالمي
(البيان)-14/08/2025
تراجعت حدة التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين في الأشهر الأخيرة.
ومن خلال محادثاتي مع قادة الشركات وكبار المسؤولين في البلدين تبين لي أن العلاقة الاقتصادية بينهما تغيرت جذرياً.
فقد باتت اعتبارات الجغرافيا السياسية والأمن القومي ومرونة سلاسل الإمداد تؤثر في القرارات الاقتصادية بقدر تأثير عوامل التكلفة والكفاءة التي كانت مهيمنة في السابق.
ومن السهل ملاحظة أن العولمة لم تغادر المشهد؛ فمبدأ الميزة النسبية لا يزال ركيزة في تشكيل أنماط التجارة العالمية، كما أن عقوداً من الاستثمارات تجعل الفصل الاقتصادي الكامل غير عملي.
ومع ذلك، لم يعد الاعتماد على الإنتاج الأرخص، والمخزونات الفورية، وسلاسل الإمداد المباشرة والسلسة كافياً لقيادة العلاقات التجارية كما كان في الماضي.
اليوم، يوازن قادة الشركات بين هذه المزايا وأسئلة لم تكن تثير الكثير من الاهتمام الواضح قبل عقد واحد، مثل: ما هي التداعيات المحتملة على الأمن القومي؟ هل أنظمتنا التشغيلية عرضة بشكل مفرط للمخاطر السيبرانية؟ إلى أي مدى يمكننا التكيف بسرعة مع توترات جيوسياسية غير متوقعة؟ وعلى أرض الواقع، يعني ذلك أن استثمارات الشركات الأمريكية في الصين باتت أكثر انتقائية بكثير مقارنة بالماضي، في ظل تحول العلاقة بين البلدين إلى ما يمكن وصفه بـ«الاعتماد الاستراتيجي المتبادل».
وتعتبر هذه المرحلة الجديدة من العولمة أكثر تعقيداً وتحدياً، فالشركات متعددة الجنسية، التي كانت تركز سابقاً على الكفاءة، أصبحت اليوم تبني استراتيجياتها على أساس المرونة والتنوع.
وتدفع الشركات بشكل متزايد ما يشبه «قسط تأمين» لضمان توافر الإمدادات وقابليتها للتوسع، واضعة الأمن في مرتبة أعلى من الكلفة.
كذلك، أصبحت المخزونات أعمق لكنها أقل كفاءة، والتكاليف أعلى، كما ارتفع مستوى التدقيق الجيوسياسي.
وتتجلى ملامح هذا التحول في الأرقام؛ إذ تراجعت حصة الصين من الواردات الأمريكية من مستوى قياسي بلغ 22 % في عام 2017 إلى 13.4 % في عام 2024.
وفي المقابل، تضاعفت حصة فيتنام، وأصبحت المكسيك الشريك التجاري الأكبر لأمريكا.
ورغم أن أياً من الأسواق الأخرى لا يستطيع أن يضاهي حجم السوق الصينية، فإن الشركات تبني اليوم شبكات متعددة المراكز، وغالباً ما تصطحب شركاءها الصينيين إلى أسواق جديدة لتقليل مخاطر الاضطراب.
ورغم أن الاهتمام الراهن ينصب في معظمه على التجارة، إلا أن تدفقات رؤوس الأموال تشهد هي الأخرى حالة من التفتت، فقد تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الصين بأكثر من 90 % خلال الأعوام الأربعة الماضية، لتسجل أدنى مستوى لها في ثلاثة عقود.
وانسحب المستثمرون الغربيون، خصوصاً من القطاعات الحساسة مثل التكنولوجيا، مدفوعين جزئياً بالقلق إزاء أداء الاقتصاد الصيني، لكن الأرجح أن ذلك يأتي في إطار التحوط من المخاطر الجيوسياسية. وفي الواقع، فإن معظم الشركات باتت تدرس حالياً استراتيجية «الصين من أجل الصين».
ورغم أن تدفقات رؤوس الأموال إلى الصين شهدت هذا العام انتعاشاً طفيفاً، فإن الجزء الأكبر منها جاء عبر الاستثمارات في المحافظ المالية لا عبر الاستثمارات المباشرة، ربما استجابة لزيادة التحفيز النقدي والمالي، وارتفاع عدد الطروحات في بورصة هونغ كونغ.
وفي الوقت نفسه، يواصل الاقتصاد الصيني المحلي التقدم، إذ حقق قفزات سريعة على منحنى التصنيع المتقدم، ويبدو عازماً على ترسيخ مكانته قوة عالمية رائدة في مجال التكنولوجيا. ومع ذلك، يبقى الاستثمار الأجنبي المباشر عند مستويات متدنية.
وفي محادثاتي مع المسؤولين الصينيين، أسمع بشكل متكرر رغبتهم في جذب المزيد من رؤوس الأموال الأجنبية.
وينبغي لصانعي السياسات العمل على تحقيق هذا الهدف الجدير بالاهتمام، شريطة أن يتم ذلك بما يتوافق مع مصالح الأمن القومي الأمريكي.
على الجانب الآخر، انخفضت الاستثمارات الصينية الجديدة في الولايات المتحدة بأكثر من 95 % عن ذروتها في عام 2016، وأعيد توجيه رأس المال بسرعة نحو شركاء في جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.
وينبغي أن تحدد المفاوضات التجارية المستقبلية القطاعات داخل الاقتصاد الأمريكي التي يسمح فيها بالاستثمار الصيني.
إن ممارسة الأعمال في الصين اليوم تتطلب التعامل مع تعقيدات هيكلية كثيرة لم تكن حاضرة في السابق.
فعدم اليقين التنظيمي، ومتطلبات توطين البيانات، والمراجعات المتعلقة بالأمن القومي، وضوابط رأس المال، جميعها عناصر تدخل في هذا الحساب. وبات توجيه رؤوس الأموال يتم بحذر أكبر، مع تركيز متزايد على المدى القصير.
وتسعى الشركات إلى الاستثمار في «خيارات متعددة» عبر تنويع مواقعها الجغرافية، ووضع استراتيجيات امتثال محلية، والاستعداد لتحولات مفاجئة في السياسات.
إن بيئة «الاعتماد الاستراتيجي المتبادل» هذه ليست مسألة تفكيك للروابط العالمية، بل إعادة تعريفها وفق متغيرات جديدة.
والشركات التي أراها تحقق النجاح هي تلك التي تطور معلومات أكثر تفصيلاً، وتتمتع بمرونة أكبر، ولديها فهم عميق للظروف المحلية.
ولأن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين تبقى الأهم في عصرنا الحالي، فإنه ينبغي على الشركات أن تدرك هذا التعقيد وتتأقلم مع هذا الواقع الجديد.