التجارة العالمية تؤكد مرونتها رغم كل محاولات ترامب في 2025
(البيان)-31/12/2025
أدت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2025 إلى عام مضطرب للتجارة العالمية، ما أثار مخاوف أسواق السندات، ودفع مجالس الإدارة العالمية إلى إعادة هيكلة سلاسل التوريد الخاصة بها، ومع ذلك فقد أثبت النظام التجاري العالمي مرونته خلال 2025.
وبعد أن هزت تعريفات «يوم التحرير»، التي فرضها ترامب الأسواق، تراجع الرئيس الأمريكي تدريجياً عن هذه التعريفات، ليبرم في نهاية المطاف اتفاقيات تحفظ ماء الوجه مع الصين، إلى جانب اتفاقيات صورية مع الاتحاد الأوروبي ودول مثل اليابان وكوريا الجنوبية. ومع ذلك أنهت الولايات المتحدة العام بمعدل تعريفة فعلي يزيد على 10%، وهو الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية.
ويعيش الأمريكيون تبعات ذلك رغم محاولة ترامب تسويق سياساته الجمركية باعتبارها انتصاراً للناخبين، إذ حققت عائدات بقيمة 30 مليار دولار شهرياً، فقد حذر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول في أغسطس من تأثيرها الواضح على أسعار المستهلك،
ومع ذلك، على الصعيد العالمي، ورغم كل الوعود بأن الرسوم الجمركية ستعيد التوازن إلى التجارة العالمية لاستعادة تفوق أمريكا إلا أن الواقع الاقتصادي أثبت صعوبة تحديه.
فبحلول نوفمبر تجاوز الفائض التجاري الصيني تريليون دولار، واستمرت الواردات الأمريكية من دول جنوب شرق آسيا في النمو عام 2025 رغم أن العديد منها لا يزال يخضع لرسوم جمركية بنسبة 20%.
ويقول ماتس بيرسون، رئيس قسم الاقتصاد الكلي والاستراتيجية الجغرافية في شركة الاستشارات «إي واي»، إن هذه الأرقام تعكس حقيقة بسيطة، مفادها أن أوروبا والولايات المتحدة لا تستطيعان منافسة الصين وجنوب شرق آسيا من حيث التكلفة في مجال التصنيع.
ويضيف: «إن الفوائد الاقتصادية لاستخدام استراتيجيات «الصين زائد واحد» تفوق تكلفة الرسوم الجمركية بالنسبة للعديد من الشركات».
إن ترامب لم يخفِ قط خططه لتقليص العجز التجاري الأمريكي، عبر فرض رسوم جمركية على شركاء الولايات المتحدة التجاريين الرئيسيين، فقد قال في خطابه الافتتاحي: «بدلاً من فرض ضرائب على مواطنينا لإثراء الدول أخرى سنفرض رسوماً جمركية وضرائب على الدول الأجنبية لإثراء مواطنينا».
رغم ذلك فإن الأسواق المالية لم تتوقع مدى هذا التطرف، فقد أدى إعلان ترامب عن فرض رسوم جمركية تصل إلى 50% على عدد من الدول في 2 أبريل – بما في ذلك موقع ناءٍ في القطب الجنوبي لا تسكنه سوى طيور البطريق – إلى خسارة 2.5 تريليون دولار من قيمة أسواق الأسهم العالمية في يوم واحد، ما أصاب المستثمرين بالذهول.
وبغض النظر عن طيور البطريق سخر الاقتصاديون من المنهجية المستخدمة لحساب أرقام الرسوم الجمركية، والتي اعتمدت على العجز التجاري الأمريكي في السلع مع كل دولة كونها مؤشراً على الممارسات غير العادلة المزعومة، ثم قسمته على كمية السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة من تلك الدولة، لكن هذه الاضطرابات لم تدم طويلاً، ففي غضون أسبوع تراجع ترامب، معلناً تعليقاً لمدة 90 يوماً بعد اتهامه الناس بالهلع.
وقفز مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 9.5% عقب هذا الخبر، مضيفاً 4.3 تريليونات دولار إلى قيمته، واستمرت الأسواق في توقع تراجع ترامب دائماً عن حافة الهاوية عند مواجهة خطر اضطرابات تجارية حقيقية.
من ناحية أخرى وخلال العام، وجد ترامب طريقة لفرض أعلى تعريفات جمركية على الواردات الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك عبر فرض رسوم تدريجية. وكان معدل التعريفة الجمركية الفعلي للولايات المتحدة، الذي يقيس الإيرادات المحصلة من الرسوم على السلع كونها نسبة من قيمتها المستوردة، قد شهد انخفاضاً عاماً في الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية والأزمة المالية العالمية.
في عام 2008 بلغ المعدل 1.3%، أما اليوم فيبلغ معدل التعريفة الجمركية الأمريكية، بناء على السياسات المعلنة مع مراعاة تغيرات أنماط الاستهلاك 14.4%.
وفقاً لمختبر ييل للميزانية، وهو مستوى لم يسجل منذ عام 1939، في حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية، عندما كانت سياسة التجارة الخارجية الأمريكية تملى بموجب قانون سموت-هاولي للتعريفات الجمركية الحمائية.
هنا يبرز السؤال: ما التكلفة الحقيقية لهذه التعريفات على أمريكا؟ لقد أظهرت حسابات أجراها الديمقراطيون في اللجنة الاقتصادية المشتركة بالكونغرس الأمريكي أن الرسوم الجمركية كلفت الأسرة الأمريكية المتوسطة ما يقارب 1200 دولار منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض هذا العام.
لكن ترامب يبقى متفائلاً بشدة بشأن إمكانية زيادة الإيرادات من خلال الرسوم الجمركية، على الرغم من تحذيرات منتقديه من أن هذه الرسوم لا تؤدي إلا إلى رفع الأسعار على المستهلكين وتكاليف الإنتاج على المصنعين.
وقد صرح بأنه يريد استخدام عائدات الرسوم الجمركية لدفع أرباح لدافعي الضرائب الأمريكيين، فقد كتب في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي في نوفمبر: «من يعارضون الرسوم الجمركية حمقى! سيتم دفع أرباح لا تقل عن 2000 دولار للفرد والجميع (باستثناء أصحاب الدخل المرتفع)»،
لكن حتى الآن فإن الأرقام لا تتوافق، فقد أظهر تحليل أجرته صحيفة «فايننشال تايمز» لعائدات الرسوم الجمركية، التي أقرها ترامب أن دفع 2000 دولار للبالغين في الولايات المتحدة، الذين يقل دخلهم عن 150 ألف دولار سيكلف حوالي 500 مليار دولار، وهو مبلغ يفوق بكثير الإيرادات الناتجة عن الرسوم الجمركية المرتفعة.
وقد اضطر ترامب في نوفمبر إلى خفض الرسوم على مجموعة كبيرة من الواردات الزراعية وسط تزايد السخط الشعبي على أسعار المواد الغذائية، وشهد هذا التراجع في السياسة إعفاء ترامب لسلع أساسية، من بينها البن والكاكاو ولحم البقر والموز، من «الرسوم الجمركية المتبادلة»، مع تزايد الضغوط للوفاء بوعده الانتخابي بجعل أمريكا في متناول الجميع مجدداً.
وبرر جيمسون جرير، الممثل التجاري الأمريكي، هذه الخطوة بالقول إن سياسات ترامب التجارية بدأت بالفعل في «إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي بطريقة نعتقد أنها أفضل لأمريكا»، لكن بيانات الاقتصاد الكلي للتجارة لا تدعم هذا الادعاء.
كذلك فإنه على الرغم من فرض ترامب رسوماً جمركية فعلية بنسبة 40% على الواردات الصينية استمر فائض الصين التجاري في السلع في النمو عام 2025، متجاوزاً تريليون دولار لأول مرة في نوفمبر.
واتسعت الفجوة الهائلة بين واردات الصين وصادراتها، حتى مع انخفاض الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بنسبة 40% على أساس سنوي في الربع الثالث من عام 2025.
وشهدت صادرات بكين إلى آسيا وأوروبا ودول الخليج نمواً مستمراً بفضل الفائض الهائل في المنتجات الصناعية، بما في ذلك المواد الكيميائية والسيارات والصلب والألواح الشمسية والآلات.
ولم يكن ترامب وحده من تصدى لتجاوزات الصين، فقد أعلن الاتحاد الأوروبي عن خطط لمضاعفة الرسوم الجمركية على الصلب في محاولة لمعالجة ما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته لبكين في ديسمبر، بالاختلالات «غير المحتملة» مع الصين.
وأشار خبراء التجارة إلى أن مزيجاً من تحويل مسار البضائع الصينية عبر دول أخرى في جنوب شرق آسيا لتجنب رسوم ترامب الجمركية، إلى جانب الخصومات السعرية وازدهار صادرات مكونات التكنولوجيا، قد ضمن استمرار قوة التصنيع الصينية في عام 2025.
كما فاق جنوب شرق آسيا التوقعات باستمراره في الازدهار، وشهدت فيتنام، الدولة التي كانت هدفاً لسياسة ترامب التجارية، والتي هددت في البداية بفرض تعريفة جمركية بنسبة 46%، فائضاً تجارياً قياسياً مع الولايات المتحدة بلغ 121.6 مليار دولار بنهاية نوفمبر.
وتقول ماريا ديميرتزيس، رئيسة مركز الاستراتيجية الاقتصادية في مجلس المؤتمرات، وهو مركز أبحاث في بروكسل، إن قيام الصين بتحويل مسار صادراتها عبر جنوب شرق آسيا، إلى جانب خفض أسعار صادراتها، قد دعم حجم الصادرات إلى أوروبا وآسيا والخليج.
ويمكن ملاحظة ذلك في صادرات السيارات الكهربائية الصينية إلى الاتحاد الأوروبي، والتي زادت كميتها، لا قيمتها، خلال العام الماضي، ما يعد دليلاً على لجوء المصنعين الصينيين إلى خفض الأسعار للحفاظ على المبيعات.
من ناحية أخرى يمكن للسياسات التجارية لترامب أن تكون ذات تأثير طويل الأمد على العملة الأمريكية، فقد أدت عودة الرئيس إلى البيت الأبيض إلى انخفاض حاد في قيمة الدولار، تلته انخفاضات أشد حدة بعد أن تسببت تعريفاته الجمركية التي فرضها في أبريل في تراجع أسواق السندات والأسهم لفترة وجيزة. في النصف الأول من عام 2025 انخفض الدولار بنسبة 10.7% مقابل سلة من عملات شركاء الولايات المتحدة التجاريين.
ورغم تحسنه بشكل طفيف في الربع الأخير من 2025 لم يستعد الدولار قيمته، ومن المتوقع أن ينهي العام منخفضاً بنحو 9%، وكان من المتوقع حدوث بعض الانخفاض، نظراً لحساسية الدولار الشديدة للسياسة النقدية، ولأن الاحتياطي الفيدرالي خفض أسعار الفائدة ثلاث مرات في النصف الثاني من العام.
لكن سياسة ترامب الخارجية، ولا سيما سياسته المتعلقة بالتعريفات الجمركية كان لها أيضاً أثر واضح، وأضعفت دور الدولار في النظام المالي العالمي، فقد خفض محافظو البنوك المركزية حول العالم هذا العام حيازاتهم من سندات الخزانة، واشتروا المزيد من الذهب، في تنويعٍ لاستثماراتهم بعيداً عن الدولار، بسبب المخاوف الجيوسياسية وخطر العقوبات.
ومن المرجح أن يرتفع الدولار في عام 2026، مدعوماً بطفرة الذكاء الاصطناعي، وقوة الاقتصاد الأمريكي، وتغير التوقعات بشأن خفض أسعار الفائدة،.
ورغم دعوة ترامب إلى خفض أسعار الفائدة، إلا أن البنك المركزي الأمريكي حافظ حتى الآن على استقلاليته السياسية، ومع ذلك حتى مع انخفاض عدد تخفيضات أسعار الفائدة وازدهار الاقتصاد، من المتوقع أن يستمر أثر الضربة التي تلقاها الدولار.
