الديون العالمية والتجزّؤ الاقتصادي ينذران بأزمة مالية وشيكة
(البيان)-02/09/2025
في عام 2019 غادرت أستاذة الاقتصاد جيتا غوبيناث أروقة جامعة هارفارد لتتولى منصب كبير المستشارين الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي. وبعد ثلاث سنوات فقط، قامت بقفزة من عالم التحليل الأكاديمي إلى قلب إدارة السياسات، حيث أصبحت «النائب الأول للمدير العام»، أي ثاني أعلى منصب في هرم قيادة الصندوق، غير أنها أنهت مهامها يوم الجمعة الماضي، لتعود مجدداً إلى مقاعد التدريس في جامعة هارفارد.
وقد امتدت فترة عمل غوبيناث في صندوق النقد الدولي على مدى ست سنوات شهد خلالها الاقتصاد العالمي صدمات غير مسبوقة وتحولات عميقة. ومن موقعها القيادي، كانت في قلب الأحداث، تتابع هذه الأزمات وتسهم في رسم مسارات التعامل معها، ولهذا -في أيامها الأخيرة نائبة أولى للمدير العام- كان من المهم الحديث معها لاستخلاص أبرز الدروس من التجربة، واستشراف ما ينتظر الاقتصاد العالمي في المرحلة المقبلة.
تستعيد جوبيناث ذكرياتها، قائلة: «بدا عام 2019 وكأنه الهدوء الذي سبق العاصفة، فقد شهدنا سنوات متتالية من التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الهائلة من جائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا، إلى أزمات الطاقة وتكاليف المعيشة، وتنامي ظاهرة التشرذم الجيواقتصادي».
وتضيف: «ما كان مفاجئاً على نحو إيجابي، هو أن الاقتصاد العالمي أظهر قدراً كبيراً من المرونة والصمود، وفي تقديري، يعود السبب الرئيس في ذلك إلى تبني سياسات حكيمة لعبت دوراً محورياً في تجنب أزمة مالية، وإذا نظرنا إلى التاريخ، فسنجد أن فترات الانكماش أو الأزمات ذات التأثيرات طويلة الأمد، والندوب العميقة، عادة ما تعقب أزمات مالية كبرى. والحقيقة المهمة أننا مررنا بجائحة، وحرب، ورفع حاد لأسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي لكبح التضخم، وتفكك اقتصادي عالمي، ورغم ذلك لم نشهد أزمة مالية، وهذه نقطة بالغة الأهمية تفسر لماذا لم يتعرض الاقتصاد العالمي لضربات أشد وأعمق، لكننا يجب ألا نُسلم بمناعة النظام الاقتصادي ونراه أمراً مفروغاً منه». وتُشير جوبيناث إلى ثلاثة تغيرات كبرى منذ عام 2019 سيواصل العالم التعامل مع تداعياتها:
التغير الأول: التحول الكبير في النظام الاقتصادي العالمي، والأهم من ذلك، المستويات المرتفعة بشكل استثنائي من عدم اليقين التي لا تزال تخيم على المشهد.
التغير الثاني: يتعلق بالسياسات المالية، حيث وصلت مستويات الدين العام العالمي إلى مستويات غير مسبوقة، ففي عام 2024، بلغت نحو 92% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وللمقارنة، كان هذا الرقم لا يتجاوز 65% في عام 2000، ما يعكس زيادة هائلة في حجم الدين العالمي، والأكثر إثارة للقلق أن التوقعات تشير إلى استمرار هذا الاتجاه التصاعدي، ليصل إلى 100% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030».
وخلافاً للماضي، حين كان بمقدور الاقتصادات المتقدمة أن تتساءل «وما الضير في ذلك؟»، فإنني لا أعتقد أننا نعيش في ذلك العالم بعد الآن، حيث لم يعد هناك وفرة في المدخرات العالمية، ولم تعد البنوك المركزية تقبل على شراء كميات هائلة من الديون الحكومية. كما نشهد عودة العوائد طويلة الأجل إلى مستويات ما قبل الأزمة المالية العالمية، مع ارتفاع ملحوظ في علاوات الأجل، وهذا يمثل المجال الثاني الذي أرى فيه أن العالم بات في وضع مختلف جذرياً عما كان عليه في عام 2019.
التغير الثالث: هو التحولات التكنولوجية الكبرى، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، حيث تكشف دراسات صندوق النقد الدولي أن قرابة 40% من القوى العاملة العالمية باتت عرضة لتأثيرات الذكاء الاصطناعي، فضلاً على أن التطورات التكنولوجية في مجال العملات المشفرة والعملات المستقرة قد تفرز انعكاسات عميقة على بنية النظام النقدي الدولي.
وقد أولت جوبيناث اهتماماً كبيراً بتأثير الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد منذ فترة؛ ففي ورقة بحثية نشرتها العام الماضي، طرحت رؤية مفادها أن الذكاء الاصطناعي قد يفاقم من حدة الاضطرابات خلال فترات الركود الاقتصادي من خلال توسيع دائرة الوظائف المعرضة للأتمتة، التي تميل المؤسسات إلى تسريع تبنيها خلال الأوقات العصيبة.
وبينما تحذّر جوبيناث من أخطار التفكك الاقتصادي، فإنها حريصة أيضاً على عدم الانجرار إلى التشاؤم. وتقول: «ما زلت أجد صعوبة في تصديق أننا سننجر إلى أقصى السيناريوهات. ولا أعتقد أن الولايات المتحدة ستسعى إلى فك الارتباط الكامل مع بقية العالم، فالكلفة ستكون باهظة، إذ يستحيل عملياً وقف العلاقات التجارية مع العالم دون إنهاء تدفقات رؤوس الأموال من مختلف أنحاء المعمورة، أو إنهاء الهيمنة الدولارية. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك تحولاً كبيراً طرأ على سياسة التجارة الأمريكية».
لكن ما الذي يمكن فعله حيال هذا التحول؟ أبدت نشرة «فري لانش» الاقتصادية اهتماماً كبيراً بالسؤال حول ما إذا كان ممكناً لبقية دول العالم الحفاظ على نظام تجارة عالمي منفتح إذا انسحبت الولايات المتحدة من هذا المسار. وتصر جوبيناث على أنها لا تعتقد أن أمريكا ستفعل ذلك، كما تبدي قدراً من الثقة في أن «عدداً كبيراً جداً من الدول لا يزال يدرك أهمية الانفتاح الاقتصادي والتكامل التجاري».
وتقول جيتا غوبيناث: «أعتقد أنه من المفيد أن نُبقي بعض الأرقام في أذهاننا، فبينما تفرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية قانونية تصل إلى نحو 18% على وارداتها من مختلف دول العالم، نجد أن متوسط التعريفات التي تفرضها تلك الدول لا يتعدى 3%. وتشكل بقية دول العالم نحو 85% من إجمالي التجارة العالمية، في حين تمثل الولايات المتحدة 15% فقط. وهذا يعكس واقعاً مختلفاً عن خمسينيات القرن الماضي، حيث بات عدد الدول المنخرطة في النظام التجاري العالمي أكبر بكثير، ما يؤكد استمرار الزخم الهائل للتبادل التجاري الدولي».
وتضيف: «في ما يتعلق بالسؤال عن ما إذا كان هذا الوضع سيستمر، أو ما إذا كانت الدول ستبدأ بفرض حواجز تجارية متبادلة، فلدي شعور إيجابي باستمرار وجود دعم قوي للتجارة المفتوحة في مختلف المحافل والمنصات الدولية، وأتوقع استمرار قوة حركة التجارة العالمية، غير أن الكثير سيتوقف على ضمان توافق المزاج العام محلياً مع الحفاظ على الحدود مفتوحة».
وبالإنصات إلى تحليلات جوبيناث، ينبغي علينا -ربما- أن نكون على درجة مماثلة من اليقظة إزاء الأخطار المحدقة بالتكامل المالي، كما هي الحال مع التجارة العالمية. وهذه الأخطار لا تقتصر تداعياتها على الاقتصاد العالمي فحسب، بل تمتد أيضاً إلى الولايات المتحدة نفسها.
وفي الوقت الذي تضطلع فيه الولايات المتحدة بدور محوري في منظومة التجارة العالمية، فإن هيمنتها على النظام المالي العالمي تتجاوز ذلك بمراحل، ما يجعلها الوجهة الأساسية لتدفقات رأس المال العالمية، وإذا تأملنا السنوات الـ15 الماضية تحديداً، فسنلاحظ أنه بفضل أداء الاقتصاد الأمريكي الذي تجاوز التوقعات في المتوسط، والحيوية الاستثنائية التي يتمتع بها قطاع التكنولوجيا، والقوة المستدامة للدولار على مدى العقد ونصف العقد الماضي، وصل انكشاف بقية دول العالم على الاقتصاد الأمريكي لمستويات غير مسبوقة، حيث شهدنا قفزة هائلة في حيازات الأسهم الأمريكية من قبل المستثمرين حول العالم، وهو ما عاد بفوائد جمة على الولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته وفر للدول الأخرى فرصة الاستفادة من هذا الزخم والنمو.
وإذا نظرنا للأمر من زاوية آلية محضة، فإن أي دولة تنحو نحو الاكتفاء الذاتي في المجال التجاري، ستجد نفسها حتماً تنزلق نحو الاكتفاء الذاتي في المجال المالي أيضاً، وستكون التكلفة المترتبة على ذلك باهظة للغاية، بالنظر إلى مدى تشابك الولايات المتحدة مع النظام المالي العالمي. ويرتبط هذا النقاش حول العولمة المالية، بطبيعة الحال، بقضايا الاستقرار المالي وسلامة الأطر التنظيمية والسياسات النقدية. وفي هذا السياق، أطلقت جوبيناث -وهي تودع منصبها نائبة أولى لمدير الصندوق– تحذيراً صارخاً: «نحن بالفعل نعيش لحظة حرجة؛ فمع ارتفاع مستويات الدين الحكومي، وتنامي دور المؤسسات المالية غير المصرفية، وظهور تساؤلات حول استقلالية البنوك المركزية، فإننا قد نكون في طريقنا إلى أزمة مالية عالمية، وستكون تلك كارثة يصعب على العالم التعافي من تداعياتها».