السياسات الصناعية.. عصر جديد من الشكوك والحمائية والتدخل
(البيان)-21/06/2024
تقدم لنا الصناعة من جديد نموذجاً صارخاً للتدخلات الحكومية، وهو ما نراه بوضوح في بقاع مختلفة من العالم. لكن التحوّل الأكثر إثارة للدهشة هو ما نراه في الولايات المتحدة. وتقفز إلى الذهن هنا مقولة رونالد ريغان إن «الكلمات الأكثر إثارة للخوف في اللغة الإنجليزية: أنا من الحكومة، وأنا هنا للمساعدة». واليوم، تقدم إدارة جو بايدن «المساعدة» بحماس. وبالنسبة لدونالد ترامب، فهو تدخليّ أيضاً، ويكمن الفارق في أن طريقته للمساعدة تنطوي على زيادة التعريفات الجمركية.
يُعد التغيير الذي تمر به الولايات المتحدة مهماً، في ضوء دورها التاريخي كمناصر قوي للاقتصاد العالمي المفتوح. والأدلة على أن السياسات الصناعية أصبحت أكثر تفشياً كفكرة وممارسة بادية للكثيرين. وكشف تقرير «عودة السياسة الصناعية في البيانات» الذي نشره صندوق النقد الدولي، عن زيادة ملحوظة في الإشارات إلى السياسة الصناعية في الصحافة الاقتصادية على مدى العقد الماضي.
وسلّطت ورقة بحثية بعنوان «الاقتصاديات الجديدة للسياسة الصناعية» نشرها المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية وشارك في تأليفها ريكا يوهاز، وناثان لين، وداني رودريك، الضوء على زيادة حادة في التدخلات السياسية الصناعية على مستوى العالم، من 228 حالة في 2017 إلى 1,568 في 2022، وكان الأمر متركزاً بصورة أساسية في البلدان مرتفعة الدخل، ما يدعو بقية دول العالم إلى اتهام هذه البلدان بالنفاق.
ويشير خبراء الاقتصاد إلى ثلاث حُجج وراء هذه التدخلات. تتعلق الحُجة الأولى بـ«العوامل الخارجية»، أو المزايا غير المُعوّضة التي تقدمها الشركات، وتنبع أبرزها مما يتعلمه الموظفون والشركات الأخرى منها. وهناك أيضاً عوامل خارجية مثل الأمن القومي والاعتبارات الاجتماعية.
أما الحُجة الثانية، فتتعلق بفشل الشركات في التنسيق والتكتّل، ولذلك، قد تتمكن بعض الشركات من البقاء إذا ما بدأت معاً، فيما لن تتمكن أي منها من البقاء إذا بدأت كل منها على نحو منفرد. والحُجة الأخيرة تتعلق بتوفير الخدمات والمصالح العامة، خاصة تلك التي تتعلق بمواقع بعينها مثل البنية التحتية. ولنلاحظ هنا أن أياً من هذه الحُجج لا يصب في صالح الحمائية. وكما أشرنا في الأسبوع الماضي، فالحمائية هي حقاً طريقة رديئة لتحقيق أهداف اجتماعية أوسع نطاقاً.
إن السياسة الصناعية تكون مثمرة بالفعل إذا غيّرت هيكل الاقتصاد على نحو مفيد. وثمّة أسباب يعلمها القاصي والداني تُفضي إلى الفشل في تحقيق ذلك. ويُعد نقص المعلومات أحدها، كما أن غلبة مجموعة من المصالح الخاصة على الأمور سبب آخر. ولذا، قد تفشل الحكومات في اختيار الفائزين، فيما قد ينجح الخاسرون في اختيار الحكومات. وكلما ازداد قدر الأموال المتاح، ازدادت احتمالات تحقق السيناريو الأخير.
مرة أخرى، يمكن للسياسات الصناعية أن تؤتي ثمارها. فقد ذكر غاري هوفباور ويوجين يونغ في ورقة بحثية نشرها معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في 2021 أن «داربا هي نموذج للنجاح البارز»، وكانا يقصدان وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة الأمريكية. إذاً، سياسة الابتكار الناجحة ممكنة، كما أن السياسات الإقليمية التي تخص أماكن بعينها أثبتت نجاحها هي الأخرى في بعض الأحيان.
ومع ذلك، فالفشل ليس الخطر الوحيد، وينطبق الأمر ذاته على النجاح، إذ تجابه السياسات الصناعية مخاطر إثارة ردود أفعال انتقامية دولية. وقد استخدمت كوريا الجنوبية حمائية الأسواق المحلية كطريقة غير مباشرة لدعم الصادرات، وتمكنت بفضل ذلك من خلق صناعات جديدة. لكنها مع ذلك تبقى دولة صغيرة تحت حماية الولايات المتحدة. أما بالنسبة للدول الأكبر، فيجب وضع التداعيات الدولية في الاعتبار، وهو درس تعلمته الصين مؤخراً في سباقها للهيمنة على التقنيات «النظيفة» الجديدة. وهذا السباق يؤدي إلى ردود فعل انتقامية في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ما يزيد العلاقات الاقتصادية بين القوى العظمى تدهوراً.
واليوم، تُعد السياسة الصناعية الجديدة التي تتبناها إدارة بايدن أكثر السياسات لفتاً للأنظار. وقد بيّن جينس كيه غالبريث، الخبير الاقتصادي الراديكالي لدى جامعة تكساس في أوستن، في تحليل له أنه «للمرة الأولى منذ عقود، تتوفر لدى الولايات المتحدة محاكاة معقولة لسياسة صناعية».
إنها غير حقيقية، ولذلك، «فقدت الدولة الأمريكية القدرة على الجهد المركز والحاسم في تصدّر السباق في التكنولوجيا والعلوم ذات الصلة». وتعلّق قانون الحد من التضخم الذي أقره بايدن بعدة أهداف تتراوح بين تعزيز التصنيع القائم على الموقع وحتى خفض الانبعاثات. وهذه مشكلة، حيث يود غالبريث لو أن تصبح الولايات المتحدة أكثر تدخلاً بصورة جذرية وأن تصبح أكثر تشبّهاً بالصين. وإذا ما كانت الولايات المتحدة لتصبح تدخليّة، فيجب عليها أن تكون استراتيجية أكثر في تحركاتها. فهل بإمكانها أن تفعل ذلك؟
إذن، كيف يمكن تقييم هذا التحوّل في السياسة الأمريكية نحو السياسات الصناعية، التي تتماشى معها في الجانب اليميني الذي ينتمي إليه ترامب، رغبة في العودة إلى التعريفات الجمركية المرتفعة التي سادت أواخر القرن الـ 19 وأوائل القرن الـ 20؟
تتمثل الإجابة عن هذا التساؤل في وجود ثلاثة مواقف تحظى بدعم الحزبين، وهي الحنين إلى التصنيع والعداء تجاه الصين وعدم الاكتراث بالقواعد الدولية التي وضعتها الولايات المتحدة بنفسها. هذا إذاً عالم جديد قد يصل فيه نظام التجارة الدولية إلى نقطة انهيار بسرعة كبيرة.
وتتمثل أكثر الطرق حكمة عند تبني سياسات صناعية في استهداف المشكلة المُحددة بأكبر دقة ممكنة، مع تقليل الآثار الجانبية الضارة بالتعاون الدولي والانفتاح التجاري والأداء الاقتصادي المحلي. ومع ذلك، فمن المُستبعد أن تسير الأمور نحو هذا المآل، مثلما كانت الحال في ثلاثينيات القرن الماضي. وكما حدث كثيراً من قبل، فمن الصعب احتواء التحوّل الجوهري في الأيديولوجية نحو تبني مقاربات قومية وتدخليّة.
لذلك، أشار ديف باتيف، وجاستن سانديفور، وأرفيند سوبرامانيان في مجلة «فورين أفيرز» إلى نهاية عصر تقارَب فيه متوسط الدخل الحقيقي بين الدول الناشئة والمتقدمة والاقتصادات مرتفعة الدخل مع نهاية «العولمة المفرطة». فكم سنخسر إذا ما تفشى العصر الجديد المفعم بالشكوك والحمائية والتدخليّة في أرجاء العالم؟
إن صانعي السياسات الأقوياء بحاجة شديدة إلى التعامل بعقلانية وحذر مع القرارات التي يتخذونها قدر الإمكان، فهناك الكثير والكثير على المحك.