«الشعبوية المالية» تضع استقلالية البنوك المركزية على المحك
(البيان)-23/07/2025
لا تخشى البنوك المركزية شيئاً أكثر من عودة التضخم، سوى الدخول في عصر الهيمنة المالية.
ففي هذه الأوقات، تفرض احتياجات الموازنات الحكومية سطوتها على قرارات السياسة النقدية، سواء عبر تمويل مباشر للعجز المالي، أو من خلال الإبقاء على معدلات فائدة منخفضة بشكل مصطنع.
وفي كلا الحالتين، تتم تسوية الفاتورة من خلال «ضريبة التضخم».
وكان الاقتصاديان توماس سارجنت ونيل والاس، أول من تناول هذه «المعضلة المزعجة» بالتحليل عام 1981، وهي تسمية دقيقة بالفعل.
فبينما تُعدّ موجات التضخم غالباً مؤقتة، فإن الانزلاق إلى حقبة من الهيمنة المالية، يمثل تهديداً وجودياً لاستقلالية البنوك المركزية، وقدرتها على ضبط التضخم. وعندما يتم تسخير السياسة النقدية لخدمة الأجندة المالية، تتحوّل البنوك المركزية إلى ما يشبه «حصالات نقود» بيد الدولة.
صحيح أن استقلالية البنوك المركزية باتت مصونة بموجب القوانين في معظم الدول، ما يجعل مخاطر الهيمنة المالية أقل مما كانت عليه في السابق، إلا أن الهجمات على استقلالية هذه المؤسسات، ومنها ما حدث مؤخراً في الولايات المتحدة، تشهد تصاعداً ملحوظاً.
وتُعلمنا دروس التاريخ، أنه إذا ما بلغت الحسابات المالية مستوى مقلقاً، واقترن ذلك بمناخ سياسي مشحون، فإن السياسة النقدية تصبح الأداة التي يُعاد عبرها التوازن المالي.
ومثل هذه الظروف المواتية لـ «الشعبوية المالية»، بدأت تتبلور تدريجياً في وقتنا الحاضر.
ولا شك أننا نعيش حالياً في عصر من التراخي المالي. إذ يبلغ متوسط العجز المالي في دول مجموعة السبع حالياً نحو 6 % من الناتج المحلي الإجمالي. ولم تتمكن هذه الدول مجتمعة من تحقيق فائض مالي منذ بداية هذا القرن.
وقد أدى ذلك إلى ارتفاع الدين الحكومي في المجموعة إلى أكثر من 100 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى منذ نحو ثلاثة أرباع القرن.
ومن المتوقع أن يتفاقم هذا الوضع مستقبلاً، بفعل شيخوخة السكان، وتحديات تغيّر المناخ، بالإضافة إلى مشروع الرئيس دونالد ترامب المحوري، المتمثل في «القانون الكبير والجميل».
وهمساً، يمكن القول إن البنوك المركزية أدّت دوراً داعماً خلال هذه المرحلة من التراخي المالي.
فقد بلغت مشترياتها المباشرة من السندات الحكومية -عبر برامج التيسير الكمي- ذروتها، عند أكثر من 10 تريليونات دولار، أي ما يعادل نحو ثلث إجمالي الدين القائم آنذاك. وباستثناء التسمية، يُعدّ ذلك تمويلاً نقدياً مباشراً.
ويجب الإقرار بأن هذه الإجراءات كانت مبرَّرة في أعقاب الأزمة المالية العالمية، إذ ساهمت في تجنّب انخفاض مفرط في معدلات التضخم، لكن من الصعب تبرير مراحل التيسير الكمي المتأخرة، لا سيما تلك التي نُفذت استجابةً لجائحة (كوفيد 19).
ففي ظل سياسة مالية توسعية للغاية، كان الهدف الأساسي من التيسير الكمي تهدئة مخاوف أسواق السندات أكثر من تحفيز التضخم.
ونتيجة لذلك، ارتفعت حيازات البنوك المركزية من الدين الحكومي إلى مستويات اقتربت من نصف إجمالي الدين القائم في المملكة المتحدة واليابان، ونحو الثلث في منطقة اليورو، وربع الحجم الإجمالي في الولايات المتحدة. ويمكن اعتبار ذلك شكلاً مخففاً وغير مباشر من الهيمنة المالية.
ومع هذا التورط العميق، لم يكن مستغرباً أن تُسفر عملية التراجع عن هذه السياسات لاحقاً، عن تكاليف باهظة، ما زاد من الضغوط على المالية العامة وأسواق السندات.
وبالاعتراف بذلك، يبدو لي أن البنوك المركزية قد تميل مستقبلاً إلى استخدام اتفاقيات إعادة الشراء طويلة الأجل (الريبو) بشكل أكبر، بدلاً من التيسير الكمي، كأداة لتخفيف التوترات في سوق السندات.
وفي عالم يتّسم بارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية، قد لا تعود هناك حاجة ضرورية للتيسير الكمي لأغراض الدورات الاقتصادية.
والتيسير الكمي ليس هو الطريق الوحيد المؤدي إلى الهيمنة المالية، فهناك أيضاً الضغوط السياسية المتزايدة على البنوك المركزية، لخفض معدلات الفائدة، بهدف تقليص تكلفة خدمة الدين.
وهذه المخاطر تزداد وضوحاً. وفي انتقاداته الأخيرة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، قدّم الرئيس دونالد ترامب رقماً دقيقاً بشأن حجم الفوائد التي يمكن تحقيقها من خفض الفائدة، 360 مليار دولار سنوياً، لكل نقطة مئوية تُخفض من تكلفة إعادة تمويل الدين الحكومي.
ويمثّل ذلك شكلاً مباشراً وأقوى من الهيمنة المالية المباشرة.
وبما أن البنوك المركزية تؤثّر بالدرجة الأولى في أسعار الفائدة قصيرة الأجل، فإن المخاطر تكون أشد، عندما تكون آجال استحقاق الدين الحكومي قصيرة وقصيرة جداً.
ففي الولايات المتحدة، أصبح ثلثا الديون الحكومية المستحقة حالياً، تحت أجل استحقاق خمس سنوات.
وفي العام الماضي، كان حوالي ثلث الديون المصدرة بأجل استحقاق عام واحد. وهذه الأنماط بدأت تتكرر على الصعيد الدولي أيضاً.
ويبلغ متوسط أجل استحقاق الدين الحكومي في المملكة المتحدة –وفقاً للوزن المرجّح– أكثر من 14 عاماً.
إلا أن هذا المتوسط بدأ بالتراجع أيضاً، لذلك، يُتوقّع أن يبلغ متوسط آجال الإصدارات الجديدة نحو 9 سنوات.
وقد شهدنا هذا الميل نحو الإصدارات قصيرة الأجل في كل من كندا وألمانيا وفرنسا ودول أخرى ضمن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.
ومن اللافت أن أكثر من 40 % من الدين السيادي القائم لدى دول المنظمة، والذي يتجاوز مجموعه 50 تريليون دولار، سيحتاج إلى إعادة تمويل خلال السنوات الثلاث المقبلة.
وفي ظل تزايد حدة منحنيات العائد، فإن هذه الاستراتيجيات المالية، تُعدّ منطقية من الناحية المالية.
غير أن آثارها النقدية قد لا تكون بهذه الدرجة من الإيجابية، إذ إن تراكم الديون والعجوزات المالية، وارتفاع العوائد طويلة الأجل، وتراجع آجال الاستحقاق، إضافة إلى تصاعد الخطاب الشعبوي، كل ذلك يشكل وصفةً مثالية لتزايد الضغوط على البنوك المركزية، من أجل إبقاء معدلات الفائدة منخفضة لفترة أطول.
وأفضل من يمكن أن يوجه إليه هذا السؤال، هو رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول.
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن هذه العوامل تولّد زخماً ذاتياً بحدّ ذاتها.
فحين تؤدي السياسة النقدية المتساهلة إلى ارتفاع العوائد طويلة الأجل، فإن ذلك يمنح الحكومات حافزاً أقوى لاعتماد آجال استحقاق أقصر لتقليص تكلفة خدمة الدين.
ولهذا السبب، تميل الأسواق الناشئة إلى إصدار ديون قصيرة الأجل، وغالباً ما تكون استقلالية بنوكها المركزية أضعف.
ومن الجيد أن معظم الاقتصادات المتقدمة لا تزال بعيدة نسبياً عن هذه المنطقة الخطرة، نظراً لوجود ضمانات أقوى لاستقلالية بنوكها المركزية.
كما يمكن لأسواق السندات أن تلعب دوراً تأديبياً فعالاً في مواجهة الشعبوية المالية الزاحفة: فقد أدّت التهديدات المتزايدة لاستقلالية الفيدرالي الأمريكي خلال الأشهر الأخيرة، إلى دفع العوائد الأمريكية طويلة الأجل لتتجاوز 5 %، وهو ما أجبر الرئيس ترامب على تراجعات جزئية في تصريحاته.
ومع ذلك، فإن ملامح الهيمنة المالية آخذة في التزايد. وستتمثل الاستجابة السياسية لهذه الضغوط، في صراع واضح بين الانضباط المالي والشعبوية المالية.
والأخيرة ستقترن بزيادة انحدار منحنى العائد، وتقصير آجال استحقاق الدين، والحفاظ على معدلات فائدة قصيرة الأجل عند مستويات منخفضة.
وإذا لم تكن الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، وأقوى بنك مركزي، بمنأى عن الشعبوية المالية، فإن أحداً غيرها لن يكون كذلك.