العوامل الكامنة وراء ثقة المستثمرين في أميركا
(العربية)-01/08/2024
*محمد العريان
أظهر المستثمرون في الأسواق الأميركية خلال العام الماضي قدرة ملحوظة على تجاهل الأخطار المحلية والخارجية التي تهدد رفاهية الاقتصاد، فضلا عن أداء النظام الاقتصادي والمالي والتجاري العالمي. كان الانفصال بين الأخطار ومشاعر السوق على هذا النحو مدفوعا بـ3 عوامل: الإيمان بقدرة بعض شركات التكنولوجيا على تحقيق شعار “السماء هي الحد”، والثقة الواسعة الانتشار بالاستثنائية الاقتصادية الأميركية، واليقين الدائم بقدرة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على دعم الأصول المالية.
الواقع أن عددا من التطورات التي شهدها العام الماضي كان من الطبيعي أن تؤدي إلى تقلبات واتجاه عام نحو الهبوط في أسواق الأسهم. لكن الحرب الدائرة بين حماس وإسرائيل -والصور المؤلمة للخسائر الكبيرة في أرواح المدنيين الأبرياء والدمار الهائل الذي لحق بسبل العيش والبنية الأساسية المادية- زادت من احتمالات اندلاع صراع تنزلق إليه المنطقة بالكامل، الذي قد يُـفضي إلى مزيد من تعطل الشحن والتجارة، ويدفع أسعار النفط إلى الارتفاع.
علاوة على ذلك، أصبحت العلاقات الصينية – الأميركية أشد توترا. فمع إقدام الولايات المتحدة على فرض مزيد من القيود على الصادرات المرتبطة بالتكنولوجيا إلى الصين، تضطر بلدان أخرى إلى الإبحار عبر مجال متزايد التعقيد من العقوبات الثانوية. وقد ذَكَّـرَت الحملة الرئاسية في الولايات المتحدة الجميع بأن موجات جديدة من الرسوم الجمركية ضد الحلفاء والخصوم قد تأتي في العام المقبل.
هذه القُـدرة التي أبداها المستثمرون على النظر إلى ما هو أبعد من هذه التطورات من غير الممكن أن تُـعزى ببساطة إلى الشعار القديم الذي يقول: “إن الأسواق ليست الاقتصاد، والاقتصاد ليس الأسواق”. بدلا من ذلك، عُـزِلَـت الأسواق بفعل العوامل الثلاثة المذكورة أعلاه.
الأول -الثقة المتزايدة في بعض شركات التكنولوجيا- تعكس التأثير الذي تخلفه ثورة الذكاء الاصطناعي، والآمال العالية المعلقة عليها، وهي صدمة تكنولوجية تاريخية لا تزال تكتسب مزيدا من الزخم. ينعكس التأثير المباشر في المكاسب المبهرة التي حققتها سوق الأسهم في الولايات المتحدة.
شهدت هذه الشركات ارتفاعات مذهلة في تقييماتها السوقية. والمثال الرائد بالطبع هو شركة إنفيديا، التي سجلت قيمة أسهمها الرأسمالية في السوق ارتفاعا شديدا من أقل من 300 مليار دولار في أواخر 2022 إلى أكثر من 3 تريليونات دولار في يونيو الماضي. ومن بين الفائزين الآخرين شركات تكنولوجيا مهيمنة بالفعل مثل إلفابيت (جوجل) ومايكروسوفت.
الواقع أن افتتان السوق بهذه الشركات ليس مفهوما فحسب، بل إنه مبرر أيضا. فهي في طليعة اختراق تكنولوجي من شأنه أن يعيد تشكيل كثير مما نقوم به وكيف نقوم به جوهريا. وتبشر المنتجات والخدمات التي تطرحها هذه الشركات بتحقيق مكاسب إنتاجية واسعة النطاق ومن شأنها أن تعمل على تحسين التوقعات ليس فقط لبعض الشركات، بل وأيضا اقتصادات بأكملها.
هذه التطورات تجعل السياسة النقدية التي ينتهجها بنك الاحتياطي الفيدرالي أكثر أهمية. والافتراض العام بين المستثمرين هو أن “بنك الاحتياطي الفيدرالي يدعمنا”. هذا “التدخل المضمون من جانب الاحتياطي الفيدرالي” يترجم عادة إلى توقعات بأن أي تباطؤ اقتصادي أو نوبة من التقلبات الشديدة في السوق من شأنها أن تؤدي إلى تخفيف سريع للسياسة النقدية.
لكن هل تظل الثقة المستمرة بالتدخل المضمون من جانب الاحتياطي الفيدرالي مبررة؟ أجل، لكن فقط إذا تمكن الاحتياطي الفيدرالي من النظر إلى ما هو أبعد من رغبته المعلنة في خفض التضخم إلى هدفه المحدد عند مستوى 2 % في أقرب وقت ممكن.
وهذا يعني خفض أسعار الفائدة في غضون الشهرين المقبلين لتجنب سياسة نقدية شديدة التقييد، التي قد تتسبب بدورها في إلحاق ضرر غير مبرر بتشغيل العمالة والاقتصاد. الواقع أن الإفراط في تشديد السياسة النقدية قد يؤدي إلى إضعاف العاملين الأولين بدرجة أكبر، الأمر الذي يجعل من الصعب للغاية أن تستمر الأسواق في تجاهل المصادر المتزايدة الاتساع لانعدام اليقين على المستويين المحلي والدولي.