المعادن الحيوية.. الحلقة الأضعف في أمن الطاقة العالمي
(البيان)-20/06/2025
تولي الحكومات حول العالم اهتماماً متزايداً بضمان استقرار إمدادات مصادر الوقود التقليدية التي تعتمد عليها منظومات الطاقة، بما في ذلك النفط والغاز والفحم. وقد شكّل انقطاع التيار الكهربائي الأخير في شبه الجزيرة الأيبيرية تذكيراً صارخاً بأهمية أمن إمدادات الكهرباء.
غير أن هذا الاهتمام لم يعد مقتصراً على هذه المجالات المعروفة، إذ برزت قضية تأمين إمدادات المعادن المستخدمة في مجموعة واسعة من تقنيات الطاقة، مثل الألواح الشمسية، والتوربينات الهوائية، والبطاريات، وشبكات الكهرباء، كأولوية ملحة على جدول الأعمال الدولي.
وتمتد تداعيات هذه المسألة إلى ما هو أبعد من قطاع الطاقة وحده، فالتقنيات المستخدمة في قطاعات الطاقة والإلكترونيات والفضاء تعتمد في كثير من الأحيان على المعادن الحيوية نفسها، كما تشترك في سلاسل إمداد مترابطة.
وعلى سبيل المثال، تعد العناصر الأرضية النادرة ضرورية لتشغيل التوربينات الهوائية والمركبات الكهربائية، وأيضاً في صناعة الروبوتات والطائرات المُسيرة.
وبالمثل، يلعب كل من الزركونيوم والبورون دوراً محورياً في قطاع الطاقة النووية ومحركات الطائرات النفاثة.
وقد أدى النمو السريع في هذه التقنيات، إلى جانب سعي الدول إلى توسيع قدراتها التصنيعية محلياً، إلى تسليط الضوء على مواقع استخراج هذه المعادن الحيوية، بل الأهم من ذلك مواقع تنقيتها وتكريرها. ومن منظور أمن الطاقة، فإن الصورة الراهنة ليست مطمئنة.
وبالنسبة إلى وكالة الطاقة الدولية، يعد مبدأ «التنوع» من القواعد الذهبية لأمن الطاقة، فالاتكال المفرط على نوع واحد من الوقود أو على مورد واحد ينطوي على مخاطر كبيرة، وهو ما اكتشفته أوروبا على نحو مكلف عندما تعلق الأمر بإمدادات الغاز الطبيعي القادمة من روسيا.
ولسوء الحظ فإن إمدادات المعادن الحيوية الستة المرتبطة بقطاع الطاقة، وهي النحاس، والليثيوم، والنيكل، والكوبالت، والغرافيت، والمعادن الأرضية النادرة، تسير في الاتجاه المعاكس، إذ أصبحت أقل تنوعاً.
ومنذ أن نشرت وكالة الطاقة الدولية دراستها البارزة حول المعادن الحيوية في مسار التحول إلى الطاقة النظيفة قبل أربع سنوات، ارتفعت الحصة السوقية المتوسطة لأكبر ثلاثة منتجين إلى نحو 90%.
وحتى عند أخذ جميع المشاريع المخطط لها عالمياً في مجال المعادن بعين الاعتبار، فإن هذا المستوى المرتفع من التركز لن يتراجع سوى بشكل طفيف خلال العقد المقبل، ليعود تقريباً إلى المستوى نفسه الذي كان عليه في عام 2020.
إن هذه ليست مجرد قضية طاقة، بل هي قضية أمن اقتصادي. فاختلال التوازن يصبح أكثر وضوحاً عند النظر إلى مجموعة أوسع من المعادن المرتبطة بالطاقة، التي تستخدم أيضاً في قطاعات مثل الفضاء والدفاع والرقائق الإلكترونية. ومن اللافت للغاية أن تتصدر الصين عمليات التكرير في 19 من أصل 20 معدناً استراتيجياً، بحصة سوقية متوسطة تبلغ 70%.
وعلى مدار العقدين الماضيين، استثمرت الصين بكثافة في هذه السلاسل القيمية، وأنشأت بنية تحتية تدعم إنتاجها المزدهر في مجال تقنيات الطاقة النظيفة وغيرها من الصناعات التحويلية المتقدمة.
وتكمن التحديات الرئيسية حالياً في أن أكثر من نصف هذه المعادن الاستراتيجية تواجه شكلاً من أشكال القيود على التصدير أو الضوابط التجارية. ولم تعد هذه القيود تقتصر على المواد الخام أو المكررة فحسب، بل باتت تستهدف بشكل متزايد التقنيات الخاصة بمعالجة هذه المعادن.
وفي الوقت الراهن، تبدو أسواق المعادن الحيوية الرئيسية ممولة بشكل جيد، غير أن هذا الفائض أدى إلى تراجع حاد في الأسعار، ما ثبط الاستثمارات الضرورية لتنويع مصادر الإمداد وتلبية النمو القوي المتوقع في الطلب خلال العقد المقبل.
وقد كانت المشاريع التي يشارك فيها لاعبون جدد في السوق هي الأكثر تضرراً. كما أن فترات التنفيذ الطويلة لهذه المشاريع تزيد من مخاطر أمن الإمدادات في حال تأخرت قرارات الاستثمار.
وهنا تبرز أهمية الدعم السياسي والشراكات الدولية، فالمشاريع التي تقام في مناطق أكثر تنوعاً عادة ما تواجه تكاليف رأسمالية تزيد بنحو 50% مقارنة بالمشاريع المماثلة في الصين وغيرها من المصافي القائمة.
ويمكن لأدوات مثل آليات تثبيت الأسعار، وضمانات الطلب، والحوافز المرتبطة بالمعايير البيئية والاجتماعية العالية أن تسهم في تحفيز إنشاء مصادر جديدة للإمداد.
وعلى سبيل المثال، قد يؤدي تقديم حوافز موجهة لإنتاج النيكل الأنظف إلى خفض التركز في السوق العالمية بنسبة 7% خلال السنوات العشر المقبلة.
ويعد التعاون مهماً بقدر أهمية المنافسة، فالدول الغنية بالموارد، وتلك التي تمتلك قدرات تكريرية، وكذلك الدول المستهلكة في مراحل ما بعد التكرير، جميعها معنية ببناء سلاسل توريد أكثر أماناً واستدامة. ويمكن للشراكات الاستراتيجية أن تُحدث تغييراً في ميزان القوى في الأسواق شديدة التركز، مثل الغرافيت والمعادن الأرضية النادرة.
كما تلعب التكنولوجيا دوراً محورياً، فالتطورات التقنية في مجالات الاستكشاف والتعدين والتكرير، مثل التحليل الجيولوجي المعتمد على الذكاء الاصطناعي، يمكن أن تخفض تكاليف الحفر بما يصل إلى 60%، وتضاعف معدلات النجاح في اكتشاف الموارد بأربعة أضعاف.
وتعمل وكالة الطاقة الدولية على تكثيف جهودها في هذا المجال، من خلال المساهمة في بناء منظومة قادرة على الصمود في وجه اضطرابات الإمدادات، ودعم تسريع تطوير المشاريع في مختلف المناطق، وتعزيز آليات الرصد والمتابعة للأسواق.
ولكن على الحكومات والقطاع الصناعي أن تتحرك معاً، وبشكل عاجل وحاسم، إذا ما أريد لتقنيات الطاقة في المستقبل أن تقوم على أسس آمنة وصلبة.
وإذا تُركت الأسواق لتعمل بمعزل عن التوجيه، فإنها لن توفر مستويات التنويع والنمو الكفيلة بتقليص مخاطر أمن الإمدادات بشكل ملموس.