تأثير متزايد لـ«الجغرافيا الاقتصادية» في الأسواق العالمية
(البيان)-30/09/2025
*محمد العريان
تشهد سوق السندات الحكومية الأمريكية حالة مثيرة من الشد والجذب، تُشير إلى اتجاه أوسع نطاقاً، وهو التأثير المتزايد لـ«الجغرافيا الاقتصادية». فمع حلول شهر سبتمبر، كان العديد من المتداولين والمحللين مرتاحين لفكرة أن منحنى عائد السندات الحكومية الأمريكية يزداد انحداراً، أي إن عوائد السندات طويلة الأجل سترتفع بوتيرة أسرع من عوائد السندات قصيرة الأجل لمراعاة المخاطر الكبرى للاحتفاظ بالسندات لفترة أطول.
في نهاية المطاف، كان الدين والعجز الأمريكيان مرتفعين، دون أي احتمالات فورية لانعكاسهما، كما يظل التضخم ثابتاً فوق المستوى المستهدف لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، ومن المرجح أن يرتفع تدريجياً. وكانت هناك مؤشرات على أن المستثمرين الأجانب يتطلعون إلى تقليص حيازاتهم التاريخية «المفرطة» في سندات الخزانة الأمريكية تدريجياً، لكن هذا الإجماع تعرض لتحد كبير بعد تصريحات من مسؤولين حكوميين أعربوا عن رغبتهم في «ثني المنحنى»، أي خفض أسعار الفائدة إلى ما يتجاوز آجال الاستحقاق القصيرة جداً التي يمكن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي التحكم بها مباشرة، لجعل الرهن العقاري أكثر يسراً، وهو هدف سياسي رئيسي لإدارة ترامب.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال عمليات إدارة الالتزامات في وزارة الخزانة أو الأدوات المختلفة التي استخدمها الاحتياطي الفيدرالي سابقاً مثل «عملية تويست»، التي باع بموجبها ديوناً قصيرة الأجل واشترى أوراقاً مالية طويلة الأجل، وشراء الأصول مباشرة. ويمكن أن نرى ما سيسود بعد ذلك، لكن التأثير المحتمل للعوامل غير التجارية في تحديد شكل منحنى العائد سيكون بالغاً في وقت سادت فيه مخاوف بشأن الاستقلال السياسي للبنك المركزي.
ويرى البعض أن تعيين الخبير الاقتصادي ستيفن ميران في مجلس الاحتياطي الفيدرالي يضع فعلياً رئيساً ثانياً للبنك المركزي، نظراً لأنه يُمثل آراء خليفة الرئيس الحالي جيروم باول، أياً كان. ويشغل ميران منصب رئيس الاحتياطي الفيدرالي أثناء إجازته من منصبه رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين الأمريكي. ويأتي هذا الشد والجذب في وقت يزداد فيه تأثير قوى سياسية عدة على السياسات الاقتصادية.
ومن الأمثلة الأخرى التي شهدها هذا العام تزايد استخدام التجارة والتمويل كسلاح للضغط على كل من الحلفاء والخصوم في قضايا غير اقتصادية، كما أنه يتم نشر السياسات الصناعية لتحقيق أهداف مثل تأمين سلاسل التوريد الحيوية، واستخدام ضوابط تصدير التكنولوجيا المتقدمة لتقييد التطور العسكري والاقتصادي للمنافسين. ولا يقتصر هذا التوجه على الولايات المتحدة فحسب، بل إنه يحدث على نطاق عالمي بشكل متزايد. وهذا دليل على كيفية تأثير الأهداف السياسية والجيوسياسية المحلية على السياسات الاقتصادية بشكل أكبر.
ويمثل هذا تحولاً جذرياً عن عقود عدة كان فيها للاقتصاد تأثير حاسم في السياسة الداخلية والجيوسياسية، في وقت رسّخت فيه حكمتان تقليديتان الاقتصاد العالمي: الأولى كانت «إجماع واشنطن» الذي أكد تحرير القيود الداخلية، وتحرير التجارة، والمسؤولية المالية، والخصخصة، والإصلاح الضريبي.
والثانية كانت العولمة، أو التكامل الوثيق بين التجارة وتدفقات رأس المال. وقد عمل كلاهما على افتراض أن الأسواق الحرة والكفاءة الاقتصادية ستؤديان -بطبيعة الحال- إلى الرخاء للجميع. وبُنيت هذه السياسات على أساس اقتصادي متين، حيث اعتُبرت السياسة والأمن القومي عوامل ثانوية لا محورية، إلا أن فعاليتها تقوضت بسبب عدم الاهتمام الكافي بأوجه عدم المساواة ونقاط الضعف الأخرى التي قد تسببها.
ويخلق التأثير المتزايد للعوامل الجيواقتصادية بيئة أكثر تقلباً لصانعي السياسات وقطاع الأعمال والمشاركين في الأسواق، مع مجموعة أوسع بكثير من النتائج المحتملة التي يجب مراعاتها. ولننظر فقط إلى ما يحدث في الأسواق المالية خلال هذا العام. فمتى شهدنا سابقاً تسجيل كل من «الأصول المُخاطرة» (الأسهم) و«الأصول المُتجنبة للمخاطر» (السندات) مثل هذه المستويات السعرية قياسية واحدة تلو الأخرى؟
ولا يُمكن فهم هذه المفارقة الظاهرة إلا من خلال منظور جيواقتصادي. إنها واحدة من أعطال عدة في الارتباطات التقليدية التي اعتمدت على فصل واضح بين قوى السوق والتصرفات السياسية. إنه بالفعل عالم أكثر تعقيداً، حيث تُعاد كتابة بعض قواعد اللعبة الرئيسية في الأسواق والاقتصاد آنياً. ويحتاج قادة الشركات والمستثمرون إلى دمج العوامل الجيوسياسية والسياسية المحلية بشكل أكبر في استراتيجياتهم، مع إدراك أن نطاق النتائج المحتملة أوسع وأغرب بكثير.
في النهاية، وكما قال أحد الزملاء مازحاً، الأسبوع الماضي، فإن الشيء الوحيد المؤكد هذه الأيام هو عدم اليقين، وحتى هذا يميل إلى أن يصبح أكثر غرابة يوماً بعد يوم.
*رئيس كلية «كوينز» بجامعة «كامبريدج» ومستشار لمؤسستي «أليانز» و«غراميرسي»